قاعات متداخلة، غرف تؤدي الى غرف عبر ممرات لاترى فيها الا وجوها واجمة تعانق بنظرات حزينة جدران المبنى الواسع الممتد في اتجاهات متباينة، تبحث عن بقية شمس هاربة من درفات نوافذ مفتوحة في نهايات جدران مسقفة ترتفع لاكثر من عشرة امتار. في كل زاوية من زوايا الاروقة المتعددة ثمة حكاية وحول كل عامود رخامي من اعمدة القاعدة ثمة من يستوقفك ليسال عن شيء ما او شخص ما.. مئات العيون تتطلع نحو مئات تقابلها، وخطوات تمشي متعاكسة الاتجاهات، افواج من البشر تدخل رواق محكمة البداءة محكمة الجنايات او الجنح او الاحوال الشخصية. انها متاهات حقيقية لممرات متشابهة وغرف تتشابة في التكوين والشكل ولكنها تختلف في الاختصاصات والمضمون. في رأسي تتداخل الصور، ازور ارض لكش وامبراطورها الشاب (اوركاجينيا) الذي يعد اول مصلح في التاريخ واول من اصدر قانونا ينظم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بين مواطنيه. او اطوف في مملكة (أشنونا) التي سبقت بقانونها شريعة حمورابي بقرابة الثمانين سنة.وقانون أشنونا يعد على درجة كبيرة من الاهمية لانه كان الاساس لقيام شريعة حمورابي المعروفة بالمسلة. ثم اعود بأجحنة الحاضر الى اربعينات القرن الماضي حيث تناقلت الافواه خبرا مفاده ان ارض المنطرد المطرزة بحقول القمح والتي تتحول في الاعياد والمناسبات الى مضمار مفتوح لسباق الخيل، فوق هذه الارض الخضراء تقوم الدولة بتشييد قصر فخم اشبه بحمراء الاندلس. طول ثلاث سنوات والناس بالمدينة يتابعون مراحل البناء، ويتابعون النقار ينحت المرمر الابيض والمعمار يرص الحجارةة فوق الحجارة لترفع اقواس الواجهة مصحوبة بمئات الاسئلة عن ماهية هذا البناء الكبير الذي تقوم الدولة بتشيده في هذا المكان البعيد عن الاحياء السكنية مثيلا له في المدينة. انها القشلة ... هكذا جاء الجواب عند افتتاح مهيب في الثاني من آب عام 1945. فالقشلة التي تأسست في مدينة الموصل عام 1899 لم يسبق لها ان امتلكت بناية خاصة بل هذا المبنى الكبير الذي احتوى جميع محاكمها ودوائرها العدلية. اول تشكيل للمحكمة كان في بناية مستقلة عن سراي الحكومة تقع في محلة باب لكش، ثم انتقل مقرها فيما بعد الى مبنى يقع قبالة سراي الشرطة في باب الطوب، وبقيت كذلك حتى الاحتلال البريطاني للموصل عام 1981 لتنتقل بعد ذلك الى سراي القشلة الواقعة على نهر دجلة المجاورة لدائرة بلدية الموصل والتي كانت منذ العهد العثماني سراي الوالي. استقرا المحكمة بعد انتقالها من سراي القشلة في بناية تقع قبالة جامع النبي شيت (ع) في دار واسعة كانت تعرف بدار آل حميدة حتى تم استقلالها في هذا المجمع الي تم افتتاحه في آب عام 1945 تزامنا مع تشكيل اول محكمة استئناف لمنطقة الموصل بموجب قانون تشكيل المحاكم رقم 3 لسنة 1945 الذي نصت مادته السابعة على ان تتكون محاكم الاستئناف كما يلي: اولا: محكمة استئناف بغداد وثانيا: محكمة استئناف الموصل. ويشمل اختصاصها منطقتي الموصل وكركوك ومركزها الموصل.وبعد تشكيل محكمة استئناف في كركوك تقلص اختصاص محكمة استئناف الموصل لتكون الهيئة القضائية العليا لمحاكم محافظة نينوى بحدودها الادارية وتتألف من رئيس وعدد من النواب والقضاة وتشمل داخل الموصل محاكم البداءة- الاحوال المدنية- الجنايات- الجنح- الاحداث-محكمة العمل –التحقيق- محكمة تنظيم التجارة- المحكمة الزراعية.. فيما تشمل خارج الموصل احد عشر دارا للعدالة موزعة في اقضية تلعفر وتلكيف وسنجار والحمدانية والبعاج والشيخان والحضر ومخمور ونواحي ربيعة والشمال وحمام العليل.
القشلة.. معلم حضاري للمدينةذاكرة المكان في مدينة الموصل مازالت حية متالقة، لايمحوها الزمن مهما تباعد، وكل تامسميات القديمة مازالت تعيش في ذاكرة الاحفاد وكانها من موجودات الحاضر رغم اندثارها أو زوالها، وقشلة الموصل اصبحت جزءا من حالة اجتماعية لا يمكن الاخلال بكينونتها او ازالتها فكيف الحال والمبنى القديم ما عاد يتماشى مع حالة التطور والنهوض الذي يشهده القطر في كل مفردات الحياة اليومية اجتماعيا وعمرانيا. ان دائرة المحاكم في نينوى بدأت تبحث عن ارض مناسبة لتشييد صرح العدالة الجديد فوقها، مراعاة لموروث المدينة فان الارض كما يرى المسؤولون في دائرة المحاكم يجب ان تكون ضمن الرقعة الجغرافية للقشلة القديمة كي تكون امتداداً لها وعمقا حضاريا لوجودها. دعوة..المبنى القديم لدار العدالة (قشلة الموصل) بات معلما حضاريا وجزءا مكملاً لصورة المدينة القدمية بكل ماتوحي به مفردات موروثها الحضاري، لذا ندعو وزراة العدل ومحافظة نينوى وكل المعنيين بامر المبنى القديم لدار العدالة الى الحفاظ عليه واعادة ترميمه وتحويره بعد قيام محكمة استئناف نينوى لانجاز الصرح الجديد لدوائرها والانتقال اليها، وجعل المبنى القديم متحفا للموروثات الشعبية في جزئه الاساس المتمثل بقاعته الواسعة الرئيسة واروقته المتداخلة مع القاعة اما جناحاه الايمن والايسر فيمكن الافادة منها ليكونا مجمعا للثقافة والاعلام في المحافظة يحتضن الاتحاد العام للادباء والكتاب ونقابة الصحفيين العراقيين جمعيات الخطاطين والمؤرخين والمصورين والمسكوكات وشعراء الشعب ونقابة الفنانين ومقرات الصحف الموصلية ومكاتب الصحف اليومية والمجلات الاسبوعية والروابط الثقافية والفرق المسرحية وغيرها من التشكيلات الثقافية والاعلامية في نينوى لكي يستمر عطاء هذا الصرح حضاريا لسنين طوال قادمة من القرن الحادي والعشرين بعد 57 عاما من العطاء القانوني الفذ الذي شهدته سنوات القرن العشرين.