الأقدار بيد الله تعالى وحده واذا كان يوجد شئ إسمه لعنة فأعتقد إنها ليست لعنة الزعيم فقط وإنما هي لعنة الملك فيصل الثاني لأنها شملت الزعيم نفسهوفترة حكم الزعيم القصيرة شهدت مذابح الموصل وكركوك وهو المسؤول الأول عنها حفظ الله عراقنا الحبيب من كل مكروه إنه سميع مجيب الدعاء
سامي كلاوي
"لا تفتح التابوت، سيذبح الموت بجناحيه كل من يجرؤ على ازعاجنا".ء هذه العبارة لاحظها عالم الاثار هاورد كارتر في مقبرة توت عنخ آمون، احد فراعنة السلالة المصرية الثامنة عشرة، وهي تحذير خطير للغاية، ولكنها لم تؤخذ على محمل الجد. الا ان ما حصل للعديد من الذين ساهموا في اكتشاف المقبرة واهتموا بشأنها جعل الكثير من الناس تعتقد ان هناك لغزا يحوم حول مومياء ذلك الفرعون الذي حكم مصر للفترة من (1334-1325 ق.م) وتوفى او قُتل وهو ما يزال في السابعة عشر من عمره. فقد اطبق الموت بجناحيه على العديد من المساهمين في اكتشاف المقبرة ومنهم اللورد "كارنافون"، ممول مشروع البحث عنها، الذي وافته المنية بسبب حمى غامضة في نفس الليلة التي اُقيم فيها حفل افتتاح المقبرة في القاهرة. وما يزال ما جرى للذين ازعجوا الفرعون الشاب لغزا يُحيّر الكثيرين ويُعرف بــ "لعنة الفراعنة". وان كان للفراعنة لعنة تحل على من يزعجهم، فان للزعيم "عبد الكريم قاسم" ألف لعنة تحل على من نال وينال منه. في مثل هذا اليوم، قبل تسع واربعين عاما، قامت مجموعة من البعثيين السفلة بإعدام الزعيم قاسم واثنين من رفاقه بعد نجاح انقلابهم الاسود الذي ساهمت به كل قوى الظلام المحلية والاقليمية والعالمية. فكيف حلت لعنة الزعيم على قاتليه؟ عبد السلام عارف، الذي عفا عنه الزعيم حين حُكم عليه بالإعدام بسبب تآمره على الثورة، كان على رأس انقلابيي شباط الاسود. اصبح عارف رئيسا ولكن رئاسته لم تدم سوى ثلاث سنوات وشهرين فاشتعلت النيران بطائرته لتبعثه إلى نيران يخلد فيها إلى ما يشاء ربه. احمد حسن البكر، الذي يصفه رفاق دربه بانه غدّار وماكر وخبيث، كان من اشد المتحمسين لإعدام الزعيم. اصبح البكر رئيسا للجمهورية بعد الانقلاب البعثي الثاني في عام 1968، وعمل كل ما في وسعه لأن يتبوأ قريبه صدام حسين الموقع الثاني في الحزب والدولة. ولكن صدام الذي لا يرضى بما دون الموقع الاول اقصى الرئيس من الرئاسة بعد ان قتل ولده وصهره، ومن ثم سقاه الثاليوم ليرحل إلى جهنم وبئس المصير. طاهر يحيى، رئيس اركان جيش الانقلاب، ورشيد مصلح صاحب البيان رقم 13 سيء الصيت بإبادة انصار الزعيم، كان مصيرهما اشد ايلاما من مصير قادتهما الانقلابيين. فقد ذكر عبد الكريم فرحان في كتابه "حصاد ثورة" عن اهانة الاثنين حينما اعتقلا بعد انقلاب البعث الثاني: "نودي على طاهر يحيى ورشيد مصلح وبعد نصف ساعة نودي على نافع وفتح الحارس باب زنزانتنا ومضى نافع يتبع الحارس. لم أستطع النوم وكنت اتوقع أن استدعى أيضاً وجاء نافع بعد أن تقدم الليل وسألته لماذا طلبوكم، قال كان التلفزيون مفتوحاً وظهرت على شاشته راقصة مصرية جاءت للعراق بمناسبة ثورة تموز فطلب ناظم كزار من طاهر يحيى ورشيد مصلح أن يرقصا مثلها، ثم قال لي أرقص أنت أيضاً ..قال نافع أجبته لا أعرف الرقص وإنما سأقرأ لكم نشيدا باللغة الالمانية وقرأت النشيد." فضّل رشيد مصلح الموت على استمرار التعذيب فظهر أمام شاشة التلفزيون عام 1970 معترفا بالتجسس لصالح العدو ليعدم بعد ذلك. اما طاهر يحيى طاهر يحيى فيقول عنه احمد الحبوبي في كتابه "أشخاص كما عرفتهم": "نُقل طاهر يحيي إلى معتقل قصر النهاية وهناك كانوا يعقدون جلسات للتسلية على المعتقلين ويتفننون في استعمال الوسائل من اجل التسلية، ولم يسلم طاهر يحيي من جلسات الأنس هذه فكان يؤتي به ويربط حول وسطه حزام ليبدو وكأنه راقصة ويطلبون منه الرقص. ثم كلفوه بتنظيف المراحيض زيادة في الإهانة والإذلال وقد احتمل كثيرا وصبر وقضى وقتا طويلا في قصر النهاية وساءت صحته وزادت شكواه من مرض عينيه حتى كاد يفقد بصره، وأطلق سراحه فاعتكف بداره لا يبرحها وكانت المراقبة على داره شديدة وعندما تضطره الضرورة للخروج تتبعه سيارة إلى حيث يذهب وتحصي عليه تحركاته وسكناته ولم يزره احد من أصدقائه أو معارفه عدا بعض أقربائه واخذ بصره يضعف وأراد ان يعالج عينيه خارج العراق فمنع من السفر فعلق على المنع بقوله: سبحان الله حتى (الشراميط) تسافر إلى خارج العراق وأنا ممنوع من السفر من اجل العلاج. وانطوى يكابد علته الجسدية والنفسية حتى فارق الحياة". صالح مهدي عمّاش، أحد ابرز قادة انقلابي شباط 1963 وتموز 1968 الاسودين، عُين نائبا لرئيس الجمهورية ووزيرا للداخلية بعد انقلاب تموز ولكنه سرعان ما أُتهم بالتآمر كي لا ينافس صدام حسين على منصب نائب رئيس مجلس قيادة الثورة. وعن اقصاء عماش عن هذا المنصب يقول جواد هاشم في كتابه "مذكرات وزير عراقي مع البكر وصدام": "حتى جمال عبد الناصر كان مستغرباً لتعيين صدام في هذا المنصب بدلاً من عماش حيث علق قائلاً: "إن اختيار نائب رئيس مجلس قيادة الثورة أمر يعود إلى الإخوة في العراق، ولكن الواد صدام، إحنا عارفينو، ده طايش، وبلطجي". أُبعد عماش إلى خارج العراق سفيرا في بضعة بلدان اخرها فنلندا، وفي نهاية المطاف استدعي إلى بغداد للمشاركة في ما كان يسمى المعايشة، أي إرسال عدد من السفراء إلى الجبهات خلال الحرب العراقية - الإيرانية. بعد عودته بدأ يعاني مشكلات صحية وتوفي خلال فترة قصيرة، علماً أنه كان رياضياً ولم يكن يعاني من أي مرض ويجزم المقربون منه أنه مات مسموماً. حردان التكريتي الذي عُين قائدا للقوة الجوية بعد انقلاب شباط الاسود تكريما لـ "بطولاته" في وأد ثورة تموز، كان من قادة انقلاب تموز ايضا، وعُين حينها وزيرا للدفاع ونائبا للرئيس البكر. عُزل عن مناصبه عام 1970 وأُبعد إلى الجزائر وقُتلت زوجته. يقول حردان في مذكراته عن مقتل زوجته: "بعد تسفيري الى الجزائر أخبروها أن عليها أن تلتحق بي في الجزائر ، ويجب عليها أن تقضي عمرها كله هنا ، وامروها بمغادرة العراق خلال ثلاثة أيام فقط، وامتثلت للأوامر، وحجزت مكانا في الطائرة العراقية التي كانت ستتوجه الى هنا، وفي المطار طالبوها بشهادة التطعيم ضد الكوليرا ولم تكن هي تحمل مثل ذلك، فاجبروها على التلقيح، ولكن ماذا كانت المادة التي لقحوها بها؟ لقد كانت مادة قاتلة لم تعش بعدها إلا ساعتين فقط، حيث لفظت انفاسها الأخيرة على متن الطائرة وحولها أولادي الستة الذين شاهدوا وفاتها لحظة بلحظة". أما حردان نفسه فقد قُتل في الكويت بعد مقتل زوجته بشهور قليلة. عبد العزيز العقيلي من قادة انقلاب شباط الاسود ورُقي إلى رتبة لواء ركن مكافأة له على اداءه في الانقلاب. وعمّا حل به فيما بعد، يذكر جليل العطية في كتابه "فندق السعادة": "أعتقل في تشرين الأول 1968 وتحمل شتى صنوف والوان التعذيب حتى قدم الى ما يسمى بمحكمة الثورة مع ثمانية عشر من رفاقه ممن كان يطلق عليهم أسم زمرة العقيلي وفي الحادي عشر من حزيران 1970 حكم عليه بالإعدام ونقل الى سجن أبي غريب في جناح الأحكام الشاقة وبعد أن أمضى فيه خمس سنوات قاسية صدر أمر في نيسان 1975 بخفض الحكم الى المؤبد. وظل يعاني من العذاب حتى اذا تسلم صدام حسين السلطة (الكرسي الأول) زاد التعذيب. وفي أب 1980 نقلته مخابرات النظام الى أحد أوكارها المجهولة لفترة شهر تقريباً واعادته مسموماً الى سجن أبي غريب الأحكام الخاصة وقد بدت عليه أثار مرض خبيث، وراحت صحته تتدهور يوماً بعد يوم أخر، بحيث راح جلده يتساقط ويتقيح، ثم تعطل جهازه الهضمي بسبب انغلاق المريء وتضال وزنه بشكل رهيب الى ما يقرب أربعين كيلوغراماً ثم فقد بصره ونطقه وظل في زنزانته التي لا تتجاوز مساحتها المترين طولاً والمتر عرضاً، ورفضت أدارة السجن تقديم أي علاج له، كما رفضت محاولات أسرته لعرضه على طبيب من خارج السجن، وكان يقوم على خدمته رفيقان له من السجناء حتى وفاته". العقيد الركن عبد الكريم مصطفى نصرة قائد معركة وزارة الدفاع في 8 شباط وعضو مجلس الثورة والمكتب العسكري قُتل طعنا بالسكين في داره في اواخر عام 1968. وعن حادث مصرعه ذكر حازم جواد في مقابلة معه في جريدة الحياة في 9.4.2004 انه اطلقت اشاعة في اليوم التالي في وزارة الدفاع وعلى عموم الحزب الرسمي ان عبدالكريم مصطفى نصرة كان رجلاً مخادعاً للحزب وللجميع وشاذاً جنسياً, وكان معه احد الصبيان عندما قتل, ويبدو ان هذا الصبي هو الذي طعنه وقتله وهرب بسيارته, لأن سيارة عبدالكريم لم تكن موجودة. فؤاد الركابي، مؤسس حزب البعث فرع العراق وصاحب فكرة اغتيال عبد الكريم قاسم سُجن هو الاخر بعد انقلاب 1968. وعن وضعه في السجن ومصيره يقول خالد علي الصالح في كتابه "على طريق النوايا الطيبة": "شاهدته من بعيد وكان في حالة سيئة، يقوم بكل طاقته بدفع عربة محملة بالقمامة من مكان الى أخر، فرثيت لحالنا جميعاً. وقد علمت فيما بعد أنه على هذا الحال من فترة طويلة، وأي تراخ منه تنهال على جسده السياط". ويضيف الصالح: "جلبوا فؤاد ليربط واقفاً على قدميه على باب الزنزانة التي أقبع فيها...... "لم يخطر ببالي أبداً أن هذا الشخص المشبوح بالحبل أمام الباب كان منذ عشر سنين أميناً لسر الحزب الذي خرج من عباءته هؤلاء، وانا القابع خلف هذا الباب في زنزانة أقرب الى القبر منها الى أي فضاء أخر، وبأمر من؟ بأمر من شارك في عمل ( محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم) خططت له قيادة كان فؤاد الركابي أمين سرها وكنت أنا مسؤول بغداد وقمنا بتكليف مجموعة من المنتمين الى هذا الحزب بتنفيذ ما خططنا له. وكان بين أولئك الذين نفذوا من يقف اليوم على رأس هؤلاء الذين يفعلون بنا وبغيرنا من خلق الله ما لا عين رأت ولا أذن سمعت. ولماذا وبدون أي ذنب إلا لأننا اخترنا طريقاً، فقط، طريقاً لا غير، غير طريقهم. ولا أدري، هل هو ذنب اقترفناه نسدد ألان كفارته؟" وعن نهاية الركابي يقول خالد علي الصالح: "بالرغم من اصدار تعميم على منتسبي الحزب بعد الحكم عليه بأنه لم تثبت عليه تهمة التجسس وسوف يطلق سراحه فقد تم اغتياله حيث كلف سجين بقتله مقابل وعد بإطلاق سراحه فهاجمه بسكين زودته به أدارة السجن ونقل الركابي الى المستشفى ويقال أنه لم يسعف وترك مسجى على النقالة ليموت بأمر من صدام حسين". عبد الكريم الشيخلي، رفيق صدام لأكثر من عشرين سنة ساهم في محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم وسجن مع الرئيس وهربا معا من السجن في أوائل الستينات. كان عضواً في القيادة القطرية لحزب البعث وعضو في مجلس قيادة الثورة عام 1968. عين وزيراً للخارجية في 30 تموز من العام نفسه وقيل أنه ساهم بتهريب قتلة حردان التكريتي الى الكويت. اُعفي من منصبه في أيلول 1971، وعين ممثلا دائماً للعراق في الأمم المتحدة. استدعي في شباط 1978 الى بغداد للتشاور ثم أعتقل وحكم عليه بالسجن مدة 6 سنوات بتهمة التآمر ثم أفرج عنه بعد فترة. وفي نيسان 1980 قتل برصاصة في رأسه وهو في طريقه الى دائرة الكهرباء في منطقة الأعظمية في حين لاذ الجناة بالفرار. وهناك آخرون استطاعوا ان يفلتوا من الموت على يد رفاقهم ولكنهم لم يفلتوا من الموت كمدا وحزنا في المنافي وهم يرون المناصب والامتيازات التي طالما حلموا بها تذهب جميعها إلى صبيان "العوجة" الذين لم يكونوا قد دخلوا المدارس بعد حين كانت بنادق الحرس القومي موجهة صوب صدور الجماهير التي عشقت الزعيم قاسم. وقليلون جدا اولئك الذين انبهم ضميرهم على ما ارتكبوه من جريمة شنعاء يندى لها كل جبين. ولعل طالب شبيب واحد من الذين ندموا حيث اعترف في كتابه "عراق 8 شباط: من حوار المفاهيم إلى حوار الدم": "وأخيراً فقد كان من الصعب علينا وصف قاسم بأوصاف تدينه غير الفردية، كان عفيف اليد، وكانت عيناه شبعانتين فلم يطمع وهو حاكم العراق الوحيد ببستان أو قطعة أرض، في حين سعى كل حكام العراق الذين سبقوه والذين خلفوه للكسب والاستيلاء وسرقة المال العام، خصوصاً كتلة صدام وخيرالله طلفاح والحيتان من أنجالهم وأصدقاء أنجالهم". هذه هي لعنات الزعيم التي ظلت تطارد قاتليه عقودا من الزمن. سقطت اصنام السفلة قتلة الزعيم وارتفعت تماثيل الزعيم على الارض التي احبها لتقر بها عيون الشعب الذي احبه. وتبقى المفارقة الكبرى هي ان البعثيين ذوو حظ عظيم رغم كل ما ارتكبوه من جرائم بحق شعبهم والشعوب الاخرى. فحزبهم هو الحزب الوحيد في العراق الذي لم يتعرض لضربة قاسية من اعداءه. لقد فقد الشيوعيون عشرات الالاف من رفاقهم على ايدي النظام البعثي الساقط، وفقد حزب الدعوة بقدر ما فقد الشيوعيون، وفقد الاكراد ما يزيد عن ذلك ولم يفقد البعثيون سوى بضعة عشرات من جلاوزتهم رغم انهم افسدوا في العراق مرتين وسقطوا مرتين. ان حظهم العظيم جعل سقوطهم الاول في تشرين 1963 على يد حليفهم القديم عبد السلام عارف الذي اكتفى بإبعادهم عن السلطة، وجعل سقوطهم الثاني في 2003 على يد الاميركيين، حليفهم الذي حملهم إلى السلطة مرتين، والذي اكتفى بان يجعلهم شركاء في السلطة الجديدة بدلا من ان يستولوا عليها بالكامل، وهذا ما يجعل خطرهم قائما ومرعبا لان البعثيين لا يجيدون اللعب مع الاخرين بل اللعب على الاخرين. ستبقى خالدا يا زعيم القلوب، وتبقى لعناتك تطارد السفلة في كل حدب وصوب