بيروت - يثير تصدر الاسلاميين المشهد السياسي في عدد من الدول العربية، قلقا متزايدا في اوساط الاقليات المسيحية التي ترى عددها يتناقص مع مر السنين، وتتخوف من تغيير في وجه الشرق الاوسط المتعدد الاديان. ويقول المؤرخ الفرنسي والخبير في الديانات اودون فاليه لوكالة الصحافة الفرنسية "المسيحيون في الشرق خائفون، وهم على حق. فالوضع السياسي الحالي ليس في صالحهم، ومستقبلهم مظلم. منذ ثلاثين او اربعين عاما فقط، كانوا يعيشون بشكل افضل بكثير". ويضيف "قبل ثلاثين عاما، لم تكن النساء محجبات في القاهرة او بغداد او دمشق... في جيل واحد، تغير الوضع، وبدأ الاسلاميون يظهرون وكانهم الملجأ ضد التيارات الغربية، في وقت يفقد الغرب من وهجه". ويعيش المسيحيون في الشرق منذ عقود في هاجس الخوف على الوجود، ويساهم كل اضطراب امني او حرب في المنطقة في تهجيرهم. واذا كانت هذه الاعتداءات تطال ايضا وغالبا على قدم المساواة المسلمين في المنطقة، الا ان اثرها يبدو جليا اكثر على المسيحيين بسبب تناقص عددهم بشكل متواصل. ومنذ بدء حركات الاحتجاج ضد انظمة متسلطة في العالم العربي قبل سنة، تثار تساؤلات حول مصير المسيحيين الذين يتخوفون من وصول الحركات والاحزاب الاسلامية كبديل لهذه الانظمة، بدليل نتائج الانتخابات الاخيرة في تونس ومصر. ودفعت التغييرات الحاصلة على خارطة الشرق الاوسط مسؤولين سياسيين ودينيين في اوروبا وعددا من كنائس الشرق الاوسط الى تنظيم مؤتمرات وتكثيف الاتصالات حول وضع المسيحيين في الشرق، كان ابرزها مؤتمر في الفاتيكان في بداية كانون الاول/ديسمبر. وحذّر رئيس أساقفة كانتربري روان ويليامز، من إحتمال أن يؤدي "الربيع العربي" إلى زيادة العداء تجاه المسيحيين في الشرق الأوسط، ووصف وضعهم بأنه أكثر ضعفاً مما كان عليه منذ قرون. ونسبت صحيفة "الغارديان" ، إلى ويليامز قوله في جلسة نقاش في مجلس اللوردات البريطاني، إن "مثل هذه الطوائف تواجه معضلة مؤلمة في أعقاب الثورات في أنحاء منطقة الشرق الأوسط، بعد أن تمتعت بدرجة معينة من الحرية من العدوانية أو التمييز في ظل بعض الأنظمة التي فقدت مصداقيتها في السنوات الأخيرة". وأضاف رئيس أساقفة كانتربري "شعر بعض المسيحيين بأن الهزات الأولى من التغيير السياسي هي نوع من التهديد للوضع الراهن بسبب غموض البدائل، وتريد غالبية هذه المجتمعات في الوقت الراهن أن تعرف على وجه السرعة، ما إذا كان الربيع العربي سيصبح خبراً جيداً أم سيئاً بالنسبة لها وللأقليات الأخرى غير المسلمة". وشدد على أن المسيحيين "يجب أن يحصلوا على مكان مضمون في أوطانهم التاريخية، وأن تلتزم الحكومات الناشئة في الشرق الأوسط بالمساواة المدنية وسيادة القانون". وقال ويليامز إن "التحديات التي تواجها الأنظمة الديكتاتورية في الشرق الأوسط جلبت أخطارها الخاصة وأجواء عدم الإستقرار كما حدث في منطقة البلقان، وما بدأ كتحركات غير طائفية فتحت الباب حتماً لبعض الناشطين السياسيين الإسلاميين الذين عانوا من القمع في ظل الأنظمة السابقة". ودعا إلى "الإنتظار لمعرفة أجندات مثل هذه المجموعات بعد فوزها بمستويات عالية من الدعم الإنتخابي الشعبي والتأكد من أنها شيئاً أشبه بالنموذج التركي، أي حكومة إسلامية قوية ومنفتحة وملتزمة بقوة بالتعددية العملية والشفافية السياسية". وأضاف رئيس أساقفة كانتربري "يبدو أن تونس تسير في هذا الإتجاه، ونأمل ونبتهل بأن يكون ذلك ممكناً في مصر"، مشدداً على أن معاملة الطوائف المسيحية "ستكون إختباراً لنجاح الربيع العربي". وقال رئيس المجلس البابوي للحوار بين الاديان في الفاتيكان المونسنيور جان لوي توران في المؤتمر، ان "زوال المسيحيين بكثافة قد يشكل كارثة"، مشيرا الى انهم "يشكلون جسرا بين الغرب والشرق". في سوريا، اثار شعار "العلوي عالتابوت والمسيحي عبيروت" الذي نقل عن متظاهرين ضد نظام الرئيس بشار الاسد خلال الاشهر الاولى من الاحتجاجات، الذعر لدى العديد من المسيحيين الذين يؤكدون انهم يعيشون في ظل الاسد اجواء جيدة من الحرية الدينية. ويرى المهندس المدني فرزات (55 عاما) رافضا الكشف عن اسمه كاملا، ان "الثورات قادت الاسلاميين الى السلطة. في غضون عشرين عاما، لن يبقى مسيحي في سوريا". وفي مصر حيث يتراوح عدد المسيحيين الاقباط بين ثمانية وعشرة ملايين من حوالى 85 مليونا، وهم يشكلون المجموعة المسيحية الاكبر عددا في الدول العربية، فوجىء كثيرون بحصول الاسلاميين وبينهم سلفيون على الاكثرية في الانتخابات البرلمانية الاخيرة. وبدأ المقتدرون من المسيحيين يفكرون بالرحيل، لا سيما بعد تصريحات منقولة عن سلفيين حول ايجاد "المناخ المناسب" لحظر الكحول ووضع الحجاب. وهو ما عبرت عنه ناردين، الموظفة القبطية في مصرف في القاهرة، بالقول "والدي يفكر جديا في مساعدتي مع اخوتي على السفر الى الخارج. فهو يرى ان لا مستقبل لنا في هذا البلد في وجود الاسلاميين". وازاء موجة الذعر هذه، وجه المتحدث باسم حزب النور السلفي رسالة تطمين الى المسيحيين قائلا "ان مس شعرة واحدة من اي قبطي مناقض لمنهجنا". في العراق، كان عدد المسيحيين يتراوح بين 800 الف ومليون ومئتي الف قبل الاجتياح الاميركي العام 2003، وفقا لمصادر كنسية ومراكز ابحاث. ولم يبق منهم سوى اقل من نصف مليون بعد مغادرة مئات الالاف او انتقالهم الى مناطق اكثر امنا في شمال البلاد. وقتل في تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي 44 شخصا في عملية تفجير نفذها تنظيم القاعدة في كاتدرائية في بغداد، في اكبر اعتداء على المسيحيين في العراق حمل المئات منهم على الرحيل. وسبقت الاعتداء وتلته عمليات قتل وتفجير وتهديد وخطف استهدفت المسيحيين وكنائسهم. ويرى المسيحيون العراقيون ان الاحزاب الطائفية الحاكمة في بغداد والمدعومة من ايران تتساهل مع ميليشيات تقوم بالتطهير حسب الهوية أو الدين وتفجر متاجر بيع الكحول وتفرض الحجاب على النساء. اما في لبنان حيث مناخات الحرية الدينية متوفرة وكذلك الدور السياسي الفاعل للمسيحيين، فان عيون هؤلاء دائما على ابواب السفارات سعيا وراء الهجرة الى احدى دول اوروبا او اميركا او استراليا. ومعلوم ان عدد الجالية اللبنانية في الخارج يفوق بكثير عدد المقيمين، لكن المسيحيين يتأثرون بهذه الظاهرة اكثر من سواهم، كونهم باتوا يشكلون حوالى 34 في المئة من السكان فقط. ويتخوف اودون فاليه من قيام "هوة كبيرة بين ضفتي المتوسط"، وبالتحديد بين غرب يوسم بالمسيحية وشرق يوسم بالاسلام، لا سيما مع تشديد الدول الغربية قيودها على الهجرة والازمة الاقتصادية التي تمر بها والتعثر الذي واجهها في افغانستان والعراق. ويقول الاب روفايل زغيب الذي ينهي دراسة دكتوراه حول "لاهوت الكنيسة في محيط شرق اوسطي" في الجامعة الغريغورية في روما، "لطالما كان المسيحيون اقلية في الشرق، لكنهم اقلية فاعلة. والخشية هي ان يصبحوا اقلية مشلولة بالخوف". ويضيف "في كل تغيير هناك اضرار، وعلى المسيحيين ان يدعموا تغييرا يتجه نحو رؤية سياسية وفلسفية لا تركز على حماية الاقليات، بل تعطي الاولوية لمبدأ المواطنة على قدم المساواة والانفتاح على الخير العام". ويخلص الى انه "رغم ان خوف المسيحيين مبرر، يجب التنبه الى ان الاسلاميين ليسوا كلهم سلة واحدة ولا يؤيدون كلهم تحكم الدين بالدولة"، مضيفا "لن يحصل اقتلاع للمسيحيين من الشرق. هذا غير وارد"