بسم الاب والابن والر وح القدس الاله الواحد امين
الجهاد الروحي في الصوم الكبير ما أجمل الحديث عن الصوم إذا وجدت محبة الصوم آذاناً صاغية فلنتناول الكلام الذي سنقوله بمحبة أما البرهان على محبة الصوم فهو :
عندما تستقر المحبة في نفس السامعين يتوقون لتكميلها بالأفعال ، هذه التي ترن بالصوت كلاماً الآن ، فما أعظم وما أرفع أن يصوم المرء من أن يتكلم عن الصوم بإسهاب .
فالقول والفعل كلاهما يتمان بحب مسترسل ، فإذا وصلت إليه النفس لتتكلم بما عندها ، وبه تفعل ما تفعل ، فالحب هو الأساس ، تقوم عليه كل الفضائل ، ويكون مسبوقاً للقول والفعل بالنفس ضرورة ، فإذا كان الحب لا يستفز المتكلم بالكلام ، فباطلة كلمته ، وبلا أجر وتعب ، وإن كانت مرتدية جمالاً . وإذا لم يحث الحب النفس على الأعمال ، فالبطالة أجمل من عملها . وفعلها بدون أجر ، وتعبها باطل كمن يصارع الهواء .
أكل فسقط وصام وقام
فليحب الصوم ثم يوصف خبره ، فلتهيم به النفس ثم تهدس في محمله فهو موضوع كدواء أول ، ليضمد الجرح الأول ، فالسقوط في الأكل ، والقيام في الصوم ، فالوصية الأولى هي أن لا تأكل ، وذلك الذي لم يطعها وأكل داهمه الموت ، وحيث أن الأكل غلبه ، خاب وزل وسقط ووجب أن يفي دينه بالصوم ، ويصلح هفوته ، وينهض من سقطته .
عندما أراد الرب يسوع المسيح آدم السماوي أن يبرئ جرح آدم الأرضي ، ابتدأ ممارساً الصوم ، الأمر الذي لم يفعله آدم فسقط ، فلو عمله لم يكن ليسقط أبداً ، لقد تجدد عصر آدم بتجربة ربنا ، وكمن يقبض خواصر عدوه ويحاربه ، لذا قاتل الأركون بالصوم ، فوهن المغرور في النهاية بالعلة الأولى التي انتصر بها ، فشمر ربنا للجهاد لا لينتصر عليه بل ليبرهن كيف كان يجب أن ينتصر آدم .
وعندما قاتله القائد الشرير ، فلم يبتدئ في الغلبة عليه بشيء إلا بخبر الطعام ، معثرة أقدام الجبابرة ليهووا من علياء ذخيرة البنين ، رآه واقفاً في مسلك قوي وخبير وطاهر ، يحتقر الشهوات ولا يهتم بالأكل طارحاً الشراهة كلها وراءه ، وجيد وحسن في عينه ما قيل أن لا تأكل ، وهو يقف على المنبر العالي الذي سقط منه ذلك الآكل .
وحمي غضب قاتل الناس ، ودنا إليه عندما جاع بعد أربعين يوماً ، وبدأ يشوش ، لينزله إلى ذلك الدرك الرخو والضعيف والبطال . الذي انحدر إليه آدم عندما أكل وسقط . بعد أن قيل له : إن أكلت تموت . إن المحتال كان عارفاً أن باب الخطيئة انفتح على الدهور بسبب الأكل . ولأجل هذا كان يقول للذي رآه قوياً بالجهاد وممسكاً بالصوم قائلاً للحجارة أن تصير خبزاً ، حرض الصائم بالخبز ، ليدخل الضعيف بواسطة الطعام ، لينتصر كالعادة على من يسمعه فيأكل بدون تمييز .
إن أكلت تموت
أما الرب فاحتفظ بالغلبة ، كي لا يداهمها الغدار ، وثبت صائماً وهو جائع ، ليعوض بتجربته ما كان مديناً به آدم ليحفظ عندما جرب ولم يحفظ ، فمنع المقاتل الذي أراد إيقاع القوي والمتواضع في الرخاوة والكبرياء . أن ليس بالخبز والمياه يحيا الإنسان فقط بل بكل كلمة من الله . وبهذه القوة التي أفلتت من الأكل ، ومن التواضع السامي عن العظمة تجرأ ذلك الممجد منحدراً وعانق السقوط ، الذي كانت إرادته قد صنعته في رخاوة آل آدم . وجازى إثم تلك الشراهة في احتمال الزهد ، وانتصر ذاك الذي قيل له أن لا تأكل وأكل . بالصوم الطاهر للذي جرب أن يأكل ولم يشأ ، وشفي الجرح الكبير نتيجة الدواء الماهر .
فبماذا إذن كان يجب أن تقهر الشراهة ؟ أليس بالصوم إذاً ! أو أي سلاح يشهر ضد الرخاوة ؟ أليس القوة ! أكل آدم وسقط وقهر ، نزل الرب فصام وأقامه وحيث أنه في ساعة واحدة عوقب وكبرت بلواه ، صام أربعين يوماً لتعاوده الصحة .
معاني عدد الأربعين
أما بالنسبة لعدد الأربعين فوافر لدينا القول : وأظنكم تعيرونني سمعكم ، فإننا نجد هذا العدد تمجده الكتب وتناغيه كثيراً . ويتشبث به العهد القديم ، ويجله العهد الجديد أكثر من جميع الأرقام . ضربت الأرض أربعين يوماً بقضيب الغمر الرهيب ، وهي منبسطة أمام الديان العادل للجلد ، يؤدبها بقسوة لأنها تجاسرت بظلم أربعين مرة حتى لا تضرب أيضاً .
فذاك الذي يجلد أربعين جلدة تحرره الشريعة من الجلد مثل الأرض المحررة التي لم تعد ترى الطوفان أيضاً ، لأنها تعذبت بقسوة أربعين يوماً بالينابيع والميازيب السفلية والعالية ، وكان ديانها رحيماً ولهذا ضربها أربعين ( يوماً ) . وحتى لا يضربها أبداً ، فإن نظام المذنبين في الناموس ينص : أن يضرب حتى الأربعين . إن حكام بولس غير الرحومين ، كلما كانوا يجلدونه ، في المرات الخمس التي قاساها منهم كان يضرب أربعين جلدة إلا واحدة ، حتى يضرب أيضاً .
كانت الجلدات تعرج وتقف عند الأربعين ، وتمنع العقاب من فاعلي الشرور ، وهي الحدود التي يضرب المذنب أربعين ضربة فقط ، لأجل كرامة سر العدد ، فيحرر النفس من قصاص شرورها .
مكث نوح أربعين يوماً عندما حط الفلك على جبل قردو ، وعندئذ فتح الكوة وأرسل رسولاً ليرى هل حل الأمن على الأرض ، لتقبل ساكني رعب الطوفان .
هذا ما أقوله لك أيها الحبيب لتفهم مقدار شهرة العدد الأربعين في الكتب المقدسة ، فموسى كاتب الأسرار ، هو الذي سطر ذلك ، ومدح هذا العدد ثلاثياً ، وحددت به وحسبت سنوات حياته ، أربعون في مصر ، وأربعون في مديان ، وأربعون في حوريب ، صام الأربعين في جبل سينا ، واستضاء وكمل ، وعلّم الخليقة كيف وبمن تنال الشفاء ، من الضربة التي لاقتها من الحية العدوة في الجنة .
شريعة الأربعين في الكتب المقدسة
أمر بالناموس أيضاً ، إن من تلد ولداً ذكراً، تغدو طاهرة في ختام الأربعين يوماً ، وتجلب قرباناً للرب في باب قبة العهد ، هكذا أيضاً من تلد أنثى ، تكون طاهرة بعد أربعين يوماً وتقدم قرباناً ، إذ بهذا عدد الأربعين مكثت بالطمث مرتين ، وبعد أربعين يوماً رجع الجواسيس من أرض الميعاد إلى موسى ، وهم حاملون ثماراً شهية من وادي العنب .
حكم الفلسطيني أربعين يوماً بالعزلة على محلة المختونين ، وفي نهاية هذا العدد ، نال داود نصراً وحرر العبرانيين من عبودية الظالمين إثر اندحار الفلسطيني الهائل الذي رسم له ضابط العالم ذلك السقوط ، وبعد نهاية الأربعين لما جرب أيضاً ابن داود سقط كالبرق من السماء .
صام ايليا الفائق بالأنبياء أربعين يوماً أيضاً ، وبعدئذ وصل إلى مغارة موسى ، ليكمل مثل ابن عمرام أيضاً في الوعي العظيم .
صنعت توبة نينوى مأثرة في أربعين يوماً عندما ختم القضاء : من الآن وإلى الأربعين يوماً تنقلب .اتكأ حزقيال أربعين يوماً على جنبه ، لما حمل إثم بني شعبه بناء على كلمة فم الرب .
أما ربنا سيد العتق والجدد ، فليس لأنه سار في أعقاب هؤلاء صام الأربعين أيضاً ، بل لينظروا إليه ويتمثلوا به ، ليحذوا هم حذوه . إن عين النبوة بصيرة ، تنظر بما سيأتي كما فيما عبر ، حيث أن أعمال الرب كانت ظاهرة لأنبيائه قبل مجيئه إلى العالم ، سبقوا فتنبأوا على سر صومه الأربعيني إذ يشتد سقوط الشيطان مثل البرق من السماء . ولهذه الأربعين لربنا هام ومدح وناغى الآباء العظام والأنبياء ناظرو الخفايا ، ومن أجلهم اشتهر ورسم عدد الأربعين هذا المحبوب في الكتب المقدسة , من أولئك الذين استحقوا وحي الروح ليدركوا الأمور المستقبلة .
أما المسيح فقد نبه وافهم بروحه المنسكبة فيهم ما هو عتيد أن يفعل ، ولهذا اجتهدوا وصوروا للخليقة الرموز العظيمة لأعماله المجيدة .
ويعلم الرب أن طبيعة الأربعين في حكمته الأزلية هي التي خلقت الطبيعة ، وعندما أراد أن يكمل الذي جبله من الأربعة ( العناصر ) بالأربعين ، رضي أن يرحض ويحرر وينفي العناصر جواهر الطبيعة ، وان يردها إلى جمالها الأول الذي لا عيب فيه الذي كان لها قبل الانحراف ، وهو يعظم الطبيعة بالزهد ليعزلها ويخرج منها ما دخل من الخارج بتوسط الحية ، فتتعلم التأديب بمشورة المخدوعين والغرباء عن الله .
إن الرب يحدد إذاً الصوم إذ يضعه كما بالميزان مقابل الطبيعة ، ليعمل تطهيراً للأربعة بأربعين ويقدم ملء الغفران للذين تنجسوا بكسر الوصية ، عندما يضاعف الرقم ( أربعة ) عشر مرات ، إذ أن العدد العاشر هذا هو حلقة الأعداد ، تثبت عليه وتبدأ به ، لما يضاعف رباعاً ، فتصير واحداً .
فإذا ما قتلت ودحرت بالصوم الشهوة الغريبة التي دخلت الجسد لتحله من نير الألفة مع الله ، فحينئذ يؤدي بهم الفساد إلى الموت . هؤلاء الذين كانوا موثوقين لينطلقوا معاً في طريق البر المؤدي إلى ميناء الخلود .
الالتزام بالصوم غلبة
أما الشيطان فنشر هذا عندما خدع وأغرى ، وهو يحرض الفساد بحسده تلك الصورة التي أقامتها الحكمة على الخليقة ، فتنحل وتصير تراباً ، تلك الصورة الناطقة التي صاغها الخالق بعد الانتهاء من أعماله ، فامتلأ حسداً إذ جبل آدم بحكمة ، وبأية معرفة واسعة كونّه ، وكيف أن أربعة أضداد تآلفت ، لتتقن صورة مختومة بالحكمة . واحتال ليدخل تلك الخطيئة التي فتحت بها ثغرة للموت فتنحل عن بعضها ولا تعد الحكمة ترى في الصورة المشوهة .
أما ربنا فكان يهتم طالباً أن يجد ما كان هالكاً ونزل إلى حومة الجهاد ، وعلم الطبيعة الصوم ، ومنعها من الشراهة المبيدة ، وأعلن لها كيف ينتصر ويقتل فيها الشهوة الغريبة ، التي دخلتها لتفسد جمال خلقتها . وفي الصوم الأربعيني هذا تتآلف العناصر الأربعة وكأنها ربطت منذ الأزل ، لتسرع حتى النهاية . وهي لا تقبل الحل بالرخاوة التي دخلت من كسر الوصية ، ولا تتركها أن تنحدر من سموها السامق الذي يحفظ تلك اللفظة القائلة : لا تأكل وإلا تموت .
أي التزام كان على ربنا لو صنع الخبز من الحجارة كما قال له المتسلط الأثيم أن يعمل ؟ أو كيف كان يغلب العدو لو اجترحت الأعجوبة التي تعلنه بوضوح ؟ ما أقوى عدوه ! أو من سأل الشيطان أن تكون الحجارة خبزاً ؟ أم هو ربنا من سأله أن يعمل الشيء الذي كان باستطاعته أن يعمله ؟
وإن كان إدراك هذه الأمور خفياً عنا لسمو روحانيتها ، فيجب علينا أن نعرف بوضوح أن الشيطان كان ينتهز الفرصة ليغلب ، والرب لا يُغلب ويعطي الغلبة لعدوه الذي كان يحتمل ، وهذا ما قاله الشيطان ليكون ، فلو كان له الغلب ، ولكن الرب لم يشأ أن يفعل ذلك ، فلو فعل ذلك ، كان يظن كمبدد الغلبة ، إذا كنت ابن الله ، فقل لتصر الحجارة خبزاً ، وكانت تطلب الاثنتان ليعرف الرب بأنه الابن ، ويكون خبزاً للصائم ، لأنه جاع أيضاً ، ابتعد الرب من كلتيهما لئلا يفعل برغبة ما كان ممكناً أن يحدث بعد زمن دون ألم .
صام وجاع ولكنه أشبع الألوف
وعندما جاع الرب لم يشأ أن يصنع خبزاً ، لئلا يبطل صومه بالتجربة ، ولكي لا يعرف أنه ابن الله عنوة ، وعندما جاع الآخرون في البرية ولم يكن المجرب قريباً منهم صنع خبزاً وأشبع الألوف ، وهو يستخدم الرحمة كمقيت للجياع ، إذ ليس وهو يهتم لاجتراح المعجزة كمن يرغب في أن يظهر بعز ابن من هو ؟ فلم يكن بعيداً من الرقم الذي قيل بهذه إذا كنت أنت ابن الله فقل : ليكن خبز ؟ من تلك اللفظة الأولى ، إذا تأكلون من الشجرة تصيرون كآلهة تعرفون الصالحات والشرور . أما الرب فلأنه سحق خداع المحتال فمن أين حملت الإشارة التي رذلها في احتمال صومه ، وهو يعلن من الكتب ، أنه يوجد حياة بلا خبز تلك التي لم يشأ آدم أن يبقى فيها لأنه أسرع للأكل الذي قدمه له المجرب .
الصوم يعلم الصبر في التجربة
من الممكن إذن صوم ربنا أن يكون معلماً للطبع أنه كيف يجب البقاء في الصبر ، وإن صادفته التجربة ، وما أجمله أن يمكث في التواضع من حيث أن العظمة في طبعه ، وكان باستطاعته أن يحيا في مناجاة الله ، كمن بخبز مغذ . تلك التي حدثت لشيوخ إسرائيل أيضاً عندما دعوا في جبل سينا للغداء بدون خبز ، وظهر ومتعهم الشراب بلا خمر ، فقد كتب أنهم رأوا الله وأكلوا وشربوا وغدا واضحاً وجلياً أنه يوجد طعام وشراب بلا خبز وماء ، فالصوم ذاته يغذي النفس المتميزة التي كانت تنظر إلى الله ، أفضل من مائدة الملك السخية بأنواع الأطعمة .
الانشراح لحديث الله
وهذا كان هدف صوم ربنا ، لما انتقم من ذلك المضاد ليصنع خبزاً ، ولم يشأ وهو القادر وببرهان يدعمه الحق وذل الأركون قائلاً : ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلام الله ، كان يجب على آدم أن ينشرح لحديث الله ، أفضل من أكل الشجرة ، وكانت بإمكان رؤياه أن تحييه خالداً ، أكثر من الثمرة المغذية . ولأنه أكل ومات ، أصوم لأحييه ، أجدد عصره وأدفع دينه ، وأصنع بذاتي ما كان مديناً له أن يعمله ولم يفعل .
بماذا أكافئك يا رب ؟
ولما رأى العدو ، أن تلك الفتنة الأولى التي افتعلها مع رئيس جنسنا ، انقلبت عليه صراعاً ، وكان يتحين الفرصة للهروب ولم يستطع ، وعندما أقلقه الصراع صار يغيره لينتصر ولم يفلح ، وحدث سقوطه العظيم والسريع كالبرق من السماء .
وصنع الرب نصراً للطبيعة بدون غلبة أقنومه وأدى دين أكله بصومه الأربعيني ، لذا فإن آدم مدين أن يقول : بماذا أكافئ الرب فإن كل مكافآته علي ، فإن مراحمه أفضل من حياتي ، له التسابيح والبركات في كل أوان . آمين .
من مواعظ مار يعقوب السروجي الملفان
ترجمها عن السريانية الراحل الخوري برصوم أيوب
إعداد لوسبن كردو ـ قنشرين