الدولة : الجنس : عدد المساهمات : 10384تاريخ التسجيل : 07/10/2009
موضوع: رد: المجزرة التي فتحت باب الجرائم في العراق الجمعة 20 أبريل 2012 - 22:45
عراق لايهدأ
لكثرة ما مر بالعراق من أحداث دموية قد يصعب على متتبعيها تذكرها جميعا.
. لكن الاحداث الاكثر مأساوية في تاريخ هذا البلد المثقل بالعنف والقمع والتعصب والارهاب تظل في الذاكرة. تستثيرها التواريخ، وأحيانا تستعيد ذكراها السنوات وكأنها تقول ما أشبه اليوم بالبارحة. ومن تلك الاحداث يوم مصرع الملك. ورغم أن الكثير من ابناء الجيل الذي عاصر قيام أول جمهورية عراقية مازال يكن الحب لزعامة عبدالكريم قاسم ويقارن بين مكتسباته وما حاق بالعراق فيما بعد من دكتاتورية وقمع، الا أن اخرين يختلفون معه في هذا الرأي ليس في اطلاق تسمية الانقلاب على ثورة الضباط الاحرار فحسب، انما في وصم عهد قاسم بالدكتاتورية أيضا وبالحكم الفردي أحيانا، وفي الحقيقة فان وقائع عهد عبدالكريم قاسم تؤكد صحة أصحاب هذا الرأي أيضا.
وبما أن الأمور في نتائجها وخاتمتها، فان مسيرة 46 عاما من العهد الجمهوري الذي أعقب الملكية التي أطاح بها العسكريون، كانت مسيرة مثقلة بالهموم والمصائب والمجازر، وكأن الجمهورية كانت جمهورية الحروب و الدم والخوف والتشرد، حيث بدأت بانقلاب وانتهت باحتلال. وخلف هذا المشهد ركام عال من قمامة الآمال ورائحة الخيبات وضياع الاجيال. وأي ذكرى نستعيدها من هذا التاريخ الحافل بالمأساة هي تذكير للعراقيين يحفزهم على تبني قيم جديدة ويحفزهم لاستعادة بلدهم، والبدء بكتابة تاريخ جديد يختلف عن ذلك التاريخ المأساوي.
* * *
قصة ملك
فيصل الثاني (1935 ـ 1958)، ثالث ملك وآخر ملك من الاسرة الملكية الحاكمة التي حكمت العراق في الفترة مابين 1921ـ 1958.
بعد وفاة الملك غازي عام 1935 ..آل الملك الى ولده الوحيد من زوجته الملكة عالية (فيصل الثاني) الذي كان آنذاك في سن الرابعة من عمره، ولهذا اصبح خاله (الامير عبدالاله) وصيا على العرش فيما كان (نوري السعيد) هو الذي يدير الدولة العراقية. وما ان بلغ الملك فيصل الثاني الثامنة عشرة حتى تم تنصيبه ملكا على العراق في الثاني من مايو عام 1953.
ورغم أن الملك فيصل الثاني ظل تحت تأثير خاله الوصي عبدالاله المكروه من الشعب فترة طويلة الا أنه حاول الابتعاد عن خاله في سنواته الثلاث الاخيرة ليعطي الامل للناس في طي صفحات سوداء كانت فيها وصاية عبدالاله سببا في أحداث مؤلمة ومشكلات كثيرة. لهذا ظل العراقيون لغاية الآن ينظرون الى الملك فيصل الثاني نظرة تتسم بالحب والعطف والحنان لكونه لم يقم بأي عمل أغضب الناس أو يستحق عليه الكراهية. وعرف عنه دماثة أخلاقه وطريقته المتواضعة الخجولة في التعامل مع الآخرين. لهذا كان مصرعه صدمة كبيرة للناس رغم ما أبدوه من تأييد للعسكريين الانقلابين في الرابع عشر من تموز عام 1958.
* * * الملك فيصل مع الوصي على العرش خاله الامير عبد الاله
والدة الملك فيصل ..الاميرة عالية
الملك غازي والد الملك فيصل
الامير عبد الاله
الملك فيصل
الملك فيصل الثاني ..مع والدته وخاله الامير عبد الاله
كشف درجات الملك ( الطالب ) فيصل الثاني
الملك فيصل ..اعتلى عرش العراق وعمره اربع سنوات فقط
الملك والضباط الأحرار
قد يكون انقلاب 23 يوليو في مصر الذي قاده جمال عبدالناصر ورفاقه حافزا للعسكريين في أكثر من بلد عربي ومنها العراق للسيطرة على السلطة. ومنذ ذلك التاريخ أصبحت الانقلابات العسكرية ترسم مصير العديد من بلدان المغرب والمشرق.
ففي عام 1956 تشكلت اللجنة العليا للضباط الاحرار في العراق بعد نشاطات سرية لضباط من الجيش العراقي توزعوا في ثلاث مجموعات، كل مجموعة كانت تعد للثورة على النظام الملكي، وتمكن قادة هذه المجموعات من الاتفاق والائتلاف في لجنة عليا برئاسة الزعيم الركن عبدالكريم قاسم، ووضعت هذه اللجنة العسكرية برنامجا لها يقوم على أهداف انهاء الملكية واعلان الجمهورية والخروج من التبعية لبريطانيا وتشكيل حكومة تتمسك بالديموقراطية وغيرها من أهداف نص عليها البيان الاول للثورة. ورغم بعض المكاسب التي يسهب البعض في تعدادها الا أن أيا من تلك المكاسب لم يبق له أثر في حاضر العراق.
وكانت اللجنة العليا للضباط الاحرار التي أعدت للانقلاب ترفض قتل الملك أو تصفية العائلة المالكة، لهذا حسب مصادر تاريخية كثيرة لم تكن متفقة على ذلك، انما كانت هناك عدة آراء حول طريقة التعامل معه بعد الابقاء على حياته، فالبعض من الضباط الاحرار ومنهم عبدالكريم قاسم كان يرى الابقاء على حياته واظهاره على شاشة التلفزيون ليعلن تأييده للثورة. والبعض الاخر رأى التعامل معه بالطريقة التي تعامل معها العسكريون الثوار في مصر مع الملك فاروق. ولكن كلما اقترب موعد تنفيذ الانقلاب ظهرت أفكار متطرفة لدى البعض من أعضاء اللجنة تدعو الى تصفية طاقم الحكم الملكي برمته، وكان هذا الرأي يصطدم برأي معارض ينادي بالابقاء على حياة الملك وعائلته وإجباره على التنازل عن الحكم، والقضاء على عبدالاله ونوري السعيد ومن يقف ضد الثورة فقط.
القرار الأخير حول الملك
مذكرات أهل ذاك الزمان بعد 46 عاما من هذا اليوم الرابع عشر من تموز، تفيد بأن الاجتماع المهم والحاسم لقادة الانقلاب الذي تقرر فيه مصير العراق آنذاك ومصير الملك الشاب كان في الحادي عشر من تموز عام 1958، حين اجتمع أبرز قادة اللجنة العليا للضباط الاحرار وضم الاجتماع عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف والعقيد عبداللطيف الدراجي ورشيد مطلك الصديق المقرب للزعيم قاسم. وفي هذا الاجتماع الذي سبق حركة الجيش لاستلام السلطة بثلاثة أيام تم بحث مصير الملك وعبدالاله ونوري السعيد وغيرهم من أركان الحكم الملكي. وقد تم الاتفاق على قتل عبدالاله ونوري السعيد، وبقي مصير الملك دون قرار. وكانت تسيطر على بحث هذا الموضوع مخاوف أن يفلت الملك وبعض أعوان النظام ويتمكنوا من استعادة السلطة كما حدث فيما بعد انقلاب رشيد عالي الكيلاني عام 1941، وتقرر قبل اتخاذ قرار بشأن مصير الملك استشارة البعض من الزعامات المدنية في البلاد ومنها السيد كامل الجادرجي الذي كان يتزعم الحزب الوطني الديموقراطي. وكان رأي الجادرجي حسب مصادر تاريخية عديدة هو ضد القتل إن كان الملك أو غيره. وبالطبع فان وجهة نظر الجادرجي كزعيم للتيار الوطني الديموقراطي شأنه شأن زعامات مدنية تؤمن بالحقوق وبسلطة القانون تميل الى الاحتكام الى القوانين بعيدا عن القتل العشوائي الذي مارسته حكومات الانقلابين العسكرين العراقيين طيلة أكثر من اربعة عقود من الزمن. لكن المصير الذي آل اليه الملك فيصل الثاني بعد ثلاثة أيام من ذلك الاجتماع كان بمثابة قرار لا يعرف مصدره، ورغم ما قيل من أن عبدالسلام عارف المعروف بتطرفه واندفاعه في انجاح الانقلاب كان وراء قتل الملك. وأن عبدالكريم قاسم كان غير موافق على عملية القتل، الا أن هذه المحاججة والمفاصلة بين زعيمين خاضا صراعا حتى الموت من أجل الزعامة، لا قيمة لها أمام النهاية المأساوية لملك شاب كان يمكن أن ينقل هو وأسرته الى مكان آمن إما لمحاكمته بعدالة وإما لإبعاده بعدالة أيضا. لكن الرياح كانت تجري آنذاك بارادة العسكر وفي تموز الحار الذي يرتبط بتاريخ عراقي حافل بالطوفان والفيضان والانقلابات والحروب.
نذر العاصفة وتحذيرات من الانقلاب
بعد محاولات شتى لتدبير الانقلاب في الفرصة السانحة وبعد مداولات كثيرة بين الضباط الاحرار استمرت سنتين، تم الاتفاق فيما بينهم على اغتنام أي فرصة تسنح لاحدى القطعات العسكرية التي يسمح لها بالمرور في بغداد في القيام بالانقلاب، فتحتل العاصمة وتوفر فرصة كبيرة لاسقاط النظام. واتفقوا على أن يتولى قيادة هذا الانقلاب أي ضابط منهم تسنح له تلك الفرصة دون الرجوع للآخرين وعلى الاخرين التحرك لمساندته فورا. وكان الدافع لهذا القرار شحة الفرص. وتسرب معلومات عن تحركات الجيش الى الدوائر الامنية الملكية.
فنوري السعيد ووفيق عارف الذي كان رئيسا للاركان كانا يطلعان على تقارير مستمرة تحذر من وجود نشاطات انقلابية لدى العديد من ضباط الجيش. وكانت التقارير تذكر اسماء جميع الضباط الاحرار الناشطين آنذاك. لكن نوري السعيد كان يؤمن ايمانا كبيرا بأن الجيش تحت سيطرته، ولا أحد من الضباط يجرؤ على التحرك ضد النظام. وكان من أهم الانذارات التي وصلت للبلاط الملكي عن نشاط الضباط وحركة الجيش ذلك التقرير الذي وجده الملك فيصل على مكتبه في حزيران عام 1958 أي قبل الانقلاب بأ قل من شهر، يتضمن تفاصيل وافية عن الانقلاب واسماء الضباط الذين يعدون له، وعلى رأس القائمة الزعيم عبدالكريم قاسم. ولم يسفر التحقيق الذي اجراه البلاط الملكي عن معرفة مصدر الرسالة أو التقرير، وسادت الموقف تكهنات منها قد يكون التقرير السري مدسوسا من جهة تريد الايقاع بهؤلاء الضباط ومنها أيضا قد يكون مصدره صحيحا لكنه لايريد تحمل المسؤولية. وفي حينها اجتمع أركان البلاط الملكي مع الملك وعبدالاله ونوري السعيد ورئيس الاركان وفيق عارف واستعرضوا الاسماء التي يقول التقرير إنها تعد للانقلاب فوجدوا معظمها من المقربين للبلاط والمعروفين بولائهم للنظام.. فعبدالكريم قاسم كان من الضباط المقربين لنوري السعيد، والزعيم ناجي طالب كان حائزا على ثقة البلاط الملكي، وعبدالسلام كان صديقا مقربا من رئيس الاركان والعقيد رفعت الحاج سري مدعوما ومقربا من جميل المدفعي. وتقرر أن يستدعي نوري السعيد ورئيس الاركان هؤلاء الضباط لمعرفة نواياهم. وحالما دخل عبدالكريم قاسم لمقابلة نوري السعيد في وزارة الدفاع سأله نوري بنبرة لا تخلو من ود وفكاهة:
ـ هل صحيح يا كرومي أنك تتآمر علينا؟
فانكر الزعيم قاسم ذلك وكذب المعلومات التي تدعي هذا الامر. وأقسم الايمان على نفيها مؤكدا ولاءه ووفاءه لنوري السعيد وللعرش.
بعد انتهاء التحقيق اتصل نوري السعيد بعبدالاله ليخبره بأنه قد أجرى التحقيق في مضمون التقرير المزعوم واتضح له أن هذا التقرير مجرد وشاية.
عبد السلام عارف .
الملك ..في افتتاح البرلمان وكالعادة دائما الامير عبدالاله بجواره ويظهر السيد محمد الصدر في الصورة
الملك والامير عبد الاله يحيون الجماهير
الملك مع كبار مساعدية
الملك مع خاله الامير عبد الاله في احدى المناسبات
الملك فيصل ..مع نوري السعيد رئيس وزراء الاتحاد العراقي الاردني 19 مايو 1958
سيارة الملك من طراز رولزرويس ..كانت واحدة من 17 سيارة صنعتها الشركة ذلك العام
الأردن على الخط في عام 1958 قام الاتحاد بين العراق والاردن، وفي مطلع تموز طلب الملك حسين من العراق ارسال قوة عسكرية عراقية للمرابطة في الاردن. ووصل رئيس الاركان وفيق عارف الى عمان للتباحث مع أقرانه الاردنيين في تدابير هذه القوات. قابل الملك حسين وأخبره بحضور بهجت التلهوني رئيس الديوان بأن العراق قرر ارسال اللواء التاسع عشر بقيادة الزعيم عبدالكريم قاسم الى الاردنوهنا امتعض الملك حسين قائلا: . ـ لا نريد هذا اللواء ولا عبدالكريم قاسم. عندنا معلومات غير مرضية عنه وعن جماعته. والمعلومات تفيد بوجود حركة غير طبيعية في الجيش.
وحينما أبدى وفيق عارف استغرابه نافيا تلك المعلومات، استدعى الملك حسين ضابطين أردنيين كانا في زيارة عسكرية للعراق واطلعا على الاوضاع الداخلية للجيش العراقي، وعادا بمعلومات تفصيلية عن وجود نشاطات للاعداد لانقلاب عسكري، وضمنا تقريرهما أسماء المشتبه فيهم ومنهم عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف. وعاد الفريق وفيق عارف لبغداد في يوم 11تموز غاضبا ومغتاظا من الانذارات الاردنية بعد أن قال لرئيس الوزراء الاردني آنذاك سمير الرفاعي وبحضور رئيس الاركان الاردني اللواء المجالي انه لايجوز أن نصدق الاشاعات التي تريدنا أن نعتقل الف ضابط عراقي من ضباطنا المخلصينوختم قوله «اطمئنوا.. . الجيش العراقي في جيبي ياباشا»!!
وتقرر بعد ذلك تأجيل ارسال اللواء التاسع عشر بقيادة الزعيم الركن عبدالكريم قاسم الى الاردن، وأن يسافر قبله أحد افواج اللواء العشرين بقيادة العقيد عبدالسلام عارف الذي يحوز على ثقة رئيس أركان الجيشوحينما دخل الفوج ومن . ثم اللواء العشرون بغداد صبيحة هذا اليوم الرابع عشر من تموز كان كل شيء هادئا ولم يجد في طريقه أي مقاومةفقد . جرت العادة أن يتم اخطار وزير الداخلية ورئيس الوزراء بدخول اي قطعات عسكرية الى بغداد لكي يتم استنفار آلاف الشرطة وقوى الامن الداخلي ووضعها في حالة الانذار لكن مثل ذلك الشيء لم يحصل، واتخذت سرية من فوج اللواء العشرين طريقها فجر ذلك اليوم نحو قصر الرحاب لتنهي حياة الملك الشاب، وتسدل الستار منذ ذلك الحين على مقتله دون تحقيق او محاكمة تميط اللثام عمن اتخذ قرار قتله وقتل افراد العائلة الملكية.
ليلة الكارثة ليلة التحضير لزواج الملك كان اليوم هو يوم الاحد الثالث عشر من تموز 1958. وكان الملك فيصل وعائلته مجتمعين في قصر الرحاب وهم يضعون الترتيبات الاخيرة لسفره الى اسطنبول ومن ثم لندن، وفي لندن كان من المقرر أن يلتقي الملك فيصل الثاني الذي بلغ من العمر في تلك الليلة (23 سنة) بخطيبته الاميرة فاضلة في لندن حيث تقرر زواجهما خلال شهرين، وكان مقررا أن يرافقه في سفره رئيس وزرائه نوري السعيد وبعض أركان حكومته. ومن العائلة كان سيرافقه بعض أميرات الاسرة وأزواجهن. وقبل ظهر ذلك اليوم استقبل الملك بعض زائريه في مكتبه وتناول طعام الغداء مع أغلب افراد أسرته، ودخل جناحه الخاص للاشراف على اعداد حقائب السفر.
ورغم جو الدعابة الذي ساد اجتماع افراد الاسرة وهم يتناولون الشاي فان شيئا من القلق والتوجس كان يسيطر على مشاعر بعض الاميرات وبخاصة الاميرتان عابدية وبديعة.
لقد حلق شعر رأسه بطريقة اظهرته أكثر شبابا وهو يفكر بلقاء خطيبته. وكان بين لحظة واخرى يسأل الحضور ضاحكا مستفسرا عن رأيهم بتسريحة شعره: ـ شو رأيكم زين شعري؟؟ قولولي زين؟ ثم يضحك بطفولة عرف بها.. وعند الساعة التي سبقت الغروب وصلت سيارة شاهدها أفراد العائلة وهم جالسون في شرفات القصر، توقفت وترجل منها ضابط يحمل رسالة سلمها للملك، تطلع اليها الملك مليا وقد اكتسى وجهه بالوجوم. وحاول اخفاء ارتباكه أمام الاميرات وناولها الى الامير عبدالاله الذي لم يقدر على اخفاء ارتباكه حال الاطلاع عليها، ثم استأذن الحاضرين وخرج من القصر. لقد ترك هذا الذي جرى تاثيرا نفسيا يبعث على التشاؤم في نفوس أفراد الاسرة. لكن الملك الشاب حاول تلطيف الجو ودعا الجميع لمشاهدة فيلم (لعبة البيجاما) تمثيل دوريس داي.
فحوى الرسالة والليلة الأخيرة كانت الرسالة من مدير الامن العام تتضمن معلومات مقتضبة تفيد بوجود تحركات مريبة من قبل الجيش، دون ايراد تفاصيل، وكان خروج عبدالاله من القصر لكي يستدعي مدير الامن العام ليبحث معه مصادر المعلومات وماهية هذه التحركات. لكن الوقت كان مثل السيف، ولم يتح فرصة كافية لاحتواء الموقف، وحينما عاد عبدالاله الى القصر تاركا التحقيق في الامر الى اليوم التالي، كان تحرك اللواء العشرين على طريق جلولاء بغداد قد بدأ. وأصبح حكم القدر قاب قوسين عن قصر الرحاب. بعد مشاهدة الفيلم اجتمعت الاسرة للعشاء. وكان الملك الشاب يحاول الابتسام والضحك لطرد المخاوف التي تنطوي عليها تساؤلات الاميرات عن سبب غياب الوصي ومحتوى الرسالة. وبعد العشاء عانق الملك خالاته وقريباته من الاميرات عناقا كان يبدو وكأنه الوداع الاخير او العشاء الملكي الاخير. وبعدها أوى الملك الى جناح نومه أملا للنهوض مبكرا استعدادا للسفر. وما أن حان منتصف الليل حتى أطفئت انوار قصر الرحاب. بانتظار صباح جديد.
الصباح الدامي عند الساعة الخامسة تقريبا استيقظ الجميع على أصوات طلقات نارية. هب الجميع فزعين: الملك والوصي والاميرات والخدم. وخرج أفراد الحرس الملكي الى حدائق القصر يستقصون مصدر النيران. وازداد رشق الرصاص والاطلاق نحو جهة القصر. ولم يهتد الحرس الى مصدر النيران في البداية. وخرج الملك فيصل من جناحه وقد ارتدى ملابسه، وخاطب الحراس من أعلى الشرفة مستفسرا عما حصل.. ومن شرفة قريبة طلب عبدالاله من حراس آخرين بأن يذهبوا الى خارج القصر ليروا ماذا حصل. وعاد الحراس ليخبروا الملك الواقف على الشرفة مع أفراد الاسرة بانهم شاهدوا عددا من الجنود يطوقون القصر. فسأل الملك: ـ ماذا يريدون؟؟ ـ يقولون عندنا اوامر بتطويق القصر والمرابطة أمامه. تلقى الملك وأسرته هذا الامر باحتمال كونه اجراء أمنيا لحراسة القصر. لكن تطور الوضع لم يترك فرصة لهذا الاحتمال. اذ سرعان ما انهال الرصاص ورشق الرشاشات على القصر. وتراجع الجميع الى الداخل ليتبادلوا الرأي حول ما حدث. وقال عبدالاله انه يعتقد أن هذه حركة من الجيش ضد الاسرة. وساد الوجوم والارتباك وسط ازدياد اطلاق النار. بعد ذلك دخل آمر الحرس الملكي مستأذنا مقابلة الملك، ليخبره بعد مثوله أمامه بان الجيش قام بثورة، وأن الضباط القائمين بها اعلنوا الجمهورية وأنهم يطلبون من العائلة الملكية تسليم نفسها. وأردف قائلا:ـ ـ نحن بانتظار أمركم لمقاتلتهم وسحقهم. وهنا رد الملك: ـ لا داعي للقتال ولا نريد سحق أحد. ثم استدعى مرافق الامير وطلب منه الذهاب للقوات التي تحاصر القصر قائلا: ـ اذهب للجماعة وقل لهم اننا مستعدون للتفاوض ولا داعي للقتال ولا نريد مقاومة، ونحن مستعدون لمغادرة البلاد اذا كانوا يريدون ذلك. وذهب المرافق ومعه ضابط برسالة الملك. لكنه لم يعد، وقيل ان الثوار قتلوه واعتقلوا الضابط الذي معه. وقيل ايضا ان عبدالاله اتصل تلفونيا بعبدالسلام عارف لكن الاخير رفض الحديث معه. كانت الساعة قد تجاوزت السادسة والنصف صباحا حين ذهب الملك لتهدئة الاميرات الباكيات. وسمعت الاميرة عابدية وهي تقول باكية: ـ ما نريد منهم شي سوى سلامة الملك.. مسكين.. ما شاف شي بعمره. بعده شاب ما شاف من الدنيا شي.. يريد يتزوج حاله حال الناس.. مانريد منهم شي بس يتركون هذا الولد يروح. وهي تشير الى الملك. وهم في الصالون كان راديو بغداد يذيع اسماء أعضاء الحكومة الجمهورية فورد اسم ناجي طالب. انتبه الملك حين سمع اسم ناجي طالب. فصاح بألم مخاطبا عبدالاله: ـ حتى ناجي طالب؟ يابا حتى ناجي طالب!! كان ناجي طالب مرافقا للملك فترة طويلة ويظهر ولاء حميما له. وهذا ما أثار دهشة الملك الشاب.
المجزرة اللحظات العصيبة اشتد الرمي على القصر، وشعرت العائلة المالكة بحصار ينذر بالموت. فيما كان عبدالسلام عارف يذيع بيانات الثورة ويعلن مقتل العائلة المالكة ويدعو الناس للهجوم على معاقل النظام.
وتبادل الحراس والقوات المهاجمة اطلاق النار. وسط أوامر ملكية بايقاف الرمي وترك المقاومة، وعدم تطوير الاحداث الى درجة قصف القصر.
اجتمعت العائلة المالكة في الحجرة الخلفية. بعد أن اقتحم الضابط عبدالستار السبع وثلة من القوات بهو القصر وتوجهوا الى الغرفة التي تجمع فيها افراد العائلة مع الملك. مصوبين رشاشاتهم نحو الملك والاميرات. وصاح الضابط الثوري بوجه الملك:
ـ اطلعوا للخارج. فرد الملك عليه:
ـ يا أخي على ويش كل هذي الرشاشات؟ شايفنا مسلحين؟
لكن الضابط فتح الباب وهو يصيح بهم:
ـ اطلعوا للخارج.
قبل الساعة الثامنة بقليل، فتح باب المطبخ، وخرج منه الملك وأمارات الرعب قد تجمدت على وجهه من هول الموقف، وبدا مرتديا ثوباً ذا كمين قصيرين وبنطالاً رمادي اللون، وينتعل حذاءاً خفيفاً، وخلفه سار الأمير ( عبدالإله ) مرتديا ثوباً وبنطالاً كذلك ، وقد وضع يده اليسرى في جيب بنطاله أما يده اليمنى فكانت ترفع منديلا ابيض.
وزاحمت الملكة ( نفيسة ) ولدها الأمير( عبدالإله ) على درج المطبخ ، ووقفت وراء الملك ورفعت القرآن عالياً بيدها فوق رأسه وهي تصر بأسنانها على أطراف الشرشف الذي يستر جسمها ، وخلفها سارت الأميرة ( عابدية ) وهي تنتحب وتولول ، ثم الأميرة ( هيام )، ثم إحدى خادمات القصر المسماة ( رازقية )، والطباخ التركي وخادم آخر، واثنان من جنود الحرس تركا بندقيتيهما في المطبخ.
خرج الجميع يتقدمهم المقدم ( محمد الشيخ لطيف )، والملازم أول ( ثامر خالد الحمدان )، وكان يقف في نهاية الرتل النقيب ( ثابت يونس ). وفي الباب كان ال عقيد ( طه ) ما زال يحاول أن يهدئ من سورة هيجان الضباط ، وخاصة النقيب ( مصطفى عبدالله ) الذي كان يرفع عقيرته بالصراخ ( اخرجوا أيها السفلة، أيها الخونة، أيها العبيد )، وخرج الجمع كله ليواجه نصف حلقة من الضباط وهم كل من : النقيب ( مصطفى عبدالله )، النقيب ( سامي مجيد )، النقيب ( عبدالله الحديثي )، النقيب ( منذر سليم )، النقيب ( حميد السراج )، الملازم أول ( عبدالكريم رفعت )، وعدد آخر من الملازمين والمراتب. ويقف خلف هؤلاء الضباط عدد آخر من الضباط والجنود ، وقد انتشروا في الحديقة وخلف الأشجار، وإلى خلف هؤلاء من اليمين واليسار كانت الجموع الغفيرة من العساكر والناس تقف متفرجة.
خرج الملك ( فيصل ) وسرعان ما رفع يده بالتحية العسكرية للضباط الموجودين أمامه، واغتصب ابتسامة رقيقة تراقصت على شفتيه ، وظهرت خلفه جدته وهي تحاول أن تجعل الجمع كله يشاهد القران بيدها، وبعدها سار الأمير ( عبدالإله )، وهو يتمتم ببضع كلمات غير مسموعة، ووجهه يكاد يكون ابيض، وزوى ما بين حاجبيه ، وهو يرى لأول مرة الضباط شاهرين رشاشاتهم بوجهه ، وتلفت يمنة ويسرة ليتطلع إلى بقية العساكر المنتشرين في الحديقة، ثم لم يلبث أن استدار إلى الخلف ليطمئن على زوجته وأخته اللتين جفت الدموع في مآقيهما ولم تعودا تعرفان ماذا تقولان أو تفعلان، وارتفع همس الملكة العجوز وهي تحاول أن تردد بعض الآيات من القرآن الكريم.
المجرم رقم 1وتقدم النقيب ( مصطفى عبدالله )، وصرخ فيهم أن يجتازوا ممراً من الشجيرات ينتهي إلى باحة خضراء صغيرة، بجانب شجرة توت ضخمة وسط الحديقة، وقد تعلق بها نسناس صغير مربوط من رقبته بسلسلة معدنية، فاجتاز الجمع الممر، ووقفوا بشكل نسق يتطلعون إلى أفواه رشاشات الضباط الموجهة نحوهم. وفي هذه الاثناء كان النقيب ( عبد الستار سبع العبوسي ) داخل قصر الرحاب، فترك القصر ونزل هابطاً الدرجات الأمامية وسلاحه الرشاش بيده، واستدار إلى اليمين فشاهد الأسرة المالكة كلها تسير في صف تاركة باب المطبخ، وبعد أقل من نصف دقيقة كان النقيب ( العبوسي ) يقف خلف الع ائلة المالكة تماماً ، ويفصله عنهم خط شجيرات صغيرة على الأرض.
وبلمح البصر فتح نيران رشاشه من الخلف مستديراً من اليمين الى اليسار، فأصابت اطلاقات رشاشه الثمانية والعشرون طلقة ظهر الأمير ( عبدالإله )، ورأس ورقبة الملك وظهري الملكة و( الأميرة عابدية )، ثم لم يلبث أن فتح النقيب ( مصطفى عبدالله ) نيرانه من الأمام على البشر الموجودين أمامه ، وفتح بقية الضباط المشكلين نصف حلقة نيران رشاشاتهم ، وجاءت النيران من الأمام ومن الخلف ومن الجانب، من كل يد تحمل سلاحاً في تلك اللحظة !! ، أصيب الملك بعدة طلقات فتحت جمجمته وسقط في أحضان الأميرة ( هيام ) التي تهاوت أرضاً ، وقد أصيبت في فخذها، وسقط الأمير ( عبدالإله ) قتيلاً وانصبت عليه نيران اكثر من فوهة نارية ، وهو يتمرغ قتيلاً على الأرض، ونالت الأميرة ( عابدية ) والملكة ( نفيسة ) حظهما من رصاص المهاجمين، فتمرغتا بالأرض وهما تلفظان أنفاسهما الأخيرة، واصيب جندي الحرس ( محمد فقي ) بعدة طلقات نارية صرعته فوراً، وجرحت الخادمة ( رازقية )، وقتل الطباخ التركي ، وقتل أحد الخدم في نفس البقعة أيضاً. واصيب النقيب ( ثابت يونس ) بطلقة نارية اخترقت رئته اليمنى ونفذت ، فهرب إلى جهة اليمين ومعه ضابطا صف من الانضباط الخاص ، وسرعان ما واجهتهم أعداد المسلحين المختفين وراء القصر واجبروهم على التسليم ،اما المقدم ( محمد الشيخ لطيف ) فقد قفز جانباً حائداً عن مهمر الرصاص ، واستطاع الملازم اول ( ثامر الحمدان ) أن يلقي بنفسه بين الشجيرات ، ويزحف أرضاً إلى ضفاف نهر الخر ويندس هناك بين جموع المهاجمين ويختفي دون أن يعرفه أحد.
وأثار منظر الدماء وأصوات الطلقات النارية جنون ضابط المدرعة ، ففتح نيران رشاشته الثقيلة على الأجسام الملقاة أرضاً، فحرثها حرثاً وحاول الطفل ( جعفر اليتيم ) الذي كانت تربيه الأميرة ( عابدية ) أن يهرب إلى زاوية من زوايا القصر ، إلا انه سرعان ما عاجله الجنود برصاص بنادقهم فأردوه قتيلاً. وعلى أثر هذا الرصاص المتناثر يمنة ويسرة أصيب النقيب ( مصطفى عبدالله ) بطلقة نارية بصدره ، وسقط أرضاً والدم ينزف من جرحه ، وتهاوى بين الشجيرات النقيب ( حميد السراج )، وقد أصابته طلقة نارية في كعب قدمه، وسقط ضابط صف برتبة رئيس عرفاء قتيلاً من المهاجمين ، أما الأميرة ( هيام ) فقد تمكنت من الزحف إلى ركن أمين وتقدم منها ضابط وحملها بيده حيث أخفاها في غرفة حرس الباب النظامي ، والدماء تسيل من فخذها.
ثم كفت الإطلاقات النارية، وكانت الجثث الميتة ملقاة أرضاً. وتصايح الضباط، كل يريد أن يعطي فكرة أو طريقة للتخلص من الجثث ، وسرعان ما جلبت سيارات نقل على أثرها الضابطان الجريحان من المهاجمين إلى المستشفى . وفجأة سمع المتجمهرون إطلاقة نارية تأتى من الخلف من بين الأشجار العالية المحيطة بالقصر، لإتمام عملية التطهير، ولعلع من جديد رصاص الرشاشات شاقاً السكون الذي ساد المكان اثر عملية القتل، كأنما هو صرخات الموت الختامية وحشرجته في قصر الرحاب.
ثم جلبت سيارة من نوع بيك اب ( فان ) تابعة للقصر كانت تستعمل للمشتريات اليومية ، ورفعوا جثة الملك، وانزلوها في السيارة، ووضعت الجثة على جنبها الأيمن مما جعل اليد اليسرى تتدلى خارج الباب، ثم سحبت الجثة من يدها إلى الداخل. ثم حملت جثث النساء، فجثة الأمير ( عبدالإله )، وبقية القتلى . وإلى هنا كانت جماهير الناس في الشارع قد دخلت حدائق القصر وانتشرت فيها، وشاهد بعضهم الجثث ، وهي تنقل إلى السيارة ( الفان ) , وتحركت السيارة نحو الطريق الخاص للقصر، وهجم شاب ضخم الجثة يحمل بيده خنجراً ، وانهال بطعنتين على جثة الأمير ( عبدالإله ).
وجيء بسيارة ثانية نقلت النقيب ( ثابت يونس ) المرافق العسكري الذي بدت عليه علامات الضعف والوهن إلى المستشفى العسكري .. حيث لفظ أنفاسه الأخيرة هناك. أما الأميرة ( هيام ) والخادمة ( رازقية ) فقد نقلتا إلى المستشفى الحكومي الملكي حيث أعطيتا العلاج اللازم وتم إنقاذ حياتهما. وعندما خرجت السيارة التي كانت تقل القتلى، وقفت بباب ثكنة الرحاب حيث أعيد رفع جثتي الأمير والملك, ووضعتا في سيارة جيب عسكرية ركب معها ضابطان . أما سيارة البيك اب فقد توجهت بسرعة إلى دائرة الطب العدلي في المستشفى المدني حيث ووريت جثث النساء في حفرة مقبرة قريبة.
كانت السيارة التي تقل جثتي الملك والأمير، تحاول أن تسير مسرعة وسط الزحام الشديد في الشارع ، وحاول الضباط ألا يعرف أحد بأن سيارتهم تقل جثتين ، إلا انه سرعان ما فطنت الحشود الهائلة التي راحت تركض وراء السيارة ، وقد شهرت المسدسات والخناجر والهراوات ، وكانت أعداد من الجنود قد وقفت عل ى جوانب الطريق المكتظ ، وهم يطلقون نيران بنادقهم ابتهاجاً. وفي قصر الرحاب، هجمت جموع المدنيين إلى داخل القصر المحترق، وباشرت عمليات السلب والنهب في سباق مع اللهيب والنيران الآكلة، واستمرت عمليات النهب يومين متتاليين على مرأى ومسمع من الضباط الذين كانوا في الحراسة هناك.
وتمت سرقة دار السيد ( عبد الجبار محمود ) زوج عمة الملك ( فيصل ) بتسهيل من أحد ضباط كتيبة الهاشمي من الحرس الملكي ، وتم تهشيم وحرق سيارة الملازم أول ( ثامر خالد الحمدان ) التي كانت تقف أمام باب القصر، وشاهدت جموع الغوغاء جثة الطباخ التركي ملقاة في الحديقة فوضعت الحبال في رقبته، وسحل إلى الطريق العام ، والقيت الجثة أمام باب معسكر الوشاش حيث صبت عليها قوارير البترول من السيارات الواقفة جنب الطريق واشعلت فيها النار وتركت هناك . وكانت الجماهير خارج القصر قد هاجمت سيارة مدنية يركب بها شاب أجنبي وانهالوا عليه ضرباً وهشموا وجهه ورأسه وهو يبكي ويصرخ متوسلاً، انه لا ذنب له ولا يعرف عن الموضوع شيئاً.
سارت السيارة التي تقل الجثتين ، تتبعها الحشود التي أخذت تنشد أهازيج الحماسة الشعبية، وحالما وصلت السيارة إلى النقطة المواجهة لمبنى المحطة العالمية التف حولها أعداد أخرى من الناس والكل يريد أن يلقي نظرة على الأموات. وازاء الضغط المخيف للحشود المتلاطمة من المسلحين المحيطين بالسيارة من كل جنب، قام أحد الضباط برفع جثة الأمير من قدمه، وسلم القدم إلى اقرب الموجودين إليه، وسحبت الجثة من السيارة والقيت أرضاً . سقطت الجثة على ظهرها والدماء تلطخ القميص الأبيض الذي كان يرتديه الأمير ( عبدالإله )، وسرعان ما انهالت عليها الركلات بالاقدام، وتناثر رشاش البصاق من أفواه المحيطين بها عليه.
انتهز الضابطان انشغال الغوغاء بجثة الأمير، فاطلقا العنان لسيارتهما التي تحمل جثة الملك ( فيصل )، وعبروا بها شوارع بغداد دون أن يشعر بهم أحد، وتوجهوا إلى وزارة الدفاع، حيث أمروا بالتوجه بها نحو مستشفى الرشيد العسكري . وفي المستشفى نقلت الجثة إلى إحدى غرف العمليات، وسجي الجثمان على إحدى طاولات العمليات، حيث قدم عدد من الضباط الاطباء وغيرهم، ليلقوا نظرة على وجه الملك القتيل، وفتح أحد الأطباء جفني العين التي بدت جامدة لا حياة فيها، وسأله ضابطان برتبة نقيب وصلا لتوهما من وزارة الدفاع، عما إذا كان الملك حياً أم ميتاً، فأجابهم انه ميت . ولم تستطع الممرضات الموجود ات في الغرفة أن يغالبن دموعهن وهن يتطلعن الى وجه فيصل .. وقد خضبت الدماء محياه وشعر رأسه وتركن الغرفة إلى الخارج وهن ينشجن.
وفي مساء اليوم نفسه حفرت حفرة قريبة من المستشفى في معسكر الرشيد، وأنزلت فيها الجثة واهيل عليها التراب، ووضعت بعض العلامات الفارقة معها لتدل على مكانها فيما بعد، واستمر التراب يغطي الجثة، حتى تساوى مع الأرض ودك بالأقدام، ولم تعد ثمة علامة في الأرض تدل على مكانها ولا يعرفها إلا الضباط الذين دفنوا ورفعوا بها تقريراً رسمياً إلى المسؤولين في وزارة الدفاع.
أما جثة الأمير ( عبدالإله )، فسرعان ما انقضت الأيادي على ملابسه وخلعتها، حتى عري الجسد الذي بدا أصفر مائلاً للبياض من كثرة ما نزف من دماء . وتصايحت الجماهير، اجلبوا الحبال، وبسرعة جلبت الحبال من الأكواخ المجاورة واللوريات الواقفة وربطت الجثة بحبلين واحد من الرقبة، ومرر الآخر من تحت الإبطين، وامسك بطرفي الحبل بعض الشبان وباشروا المسير، والجثة العارية تسحل من ورائهم على الأرض . وكلما تقدم موكب القتيل المسحول من قلب مدينة بغداد صادفتهم الجماهير الهائجة القادمة لتلقي نظرة أو ضربة أو طعنة في الميت.
وما ان وصلت الجثة الى قلب منطقة الكرخ وفي اكبر شوارعها الا وكانت حشود بغداد الرصافة تحاول أن تعبر جسر المأمون الذي غص بمن فيه، وكذلك الشارع واصبح من المتعذر المرور والسير فيه. وجلبت الحبال الغليظة، وربطت بشرفة فندق الكرخ، وبعد دقائق كانت جثة الأمير ترتفع معلقة في الهواء . فصعد إليها حملة السكاكين والسواطير فبتر ( الذكر ) وفصلت ( القدمان من الركبتين )، وقطع ( الكفان من الرسغين )، وألقيت إلى مجموعات من الفتيان والشبان الذين سرعان ما تلاقفوها، وانطلقوا مهرولين بالأجزاء المبتورة عبر الشوارع والأزقة متجهين نحو الرصافة، في صخب ولعب وضحك، كأنهم في ساحة كرة القدم ، وتقدم شاب في مقتبل العمر من الجثة المعلقة، عرف فيما بعد انه أبن أحد القواد العسكريين الذين اعدموا بعد حوادث 1941م وناولته الجماهير مسدساً ليطلق منه النار على الميت، إلا أنه امتنع عن القيام بعمل كهذا.
وبقيت الجثة معلقة في مكانها زهاء العشرين دقيقة، وتعالت الصرخات ( أنزلوها ولنكمل سحلها في الشوارع )، وأنزلت الجثة، وبوشر بالسحل ثانية ، وعبروا بها جسر المأمون متجهين نحو شارع الرشيد الذي كان يغص بالناس وبالمتفرجين من الشرفات والنوافذ . وفي شارع الرشيد أصبحت الجث ة هدفاً للحجارة، وبدت طلائع الموكب الوحشي المرعب وهي تسير على لحن نشيد الله اكبر، الذي كان يملأ الأسماع من أجهذة الراديو المنتشرة في مقاهي وأماكن الشارع.
كان الوجه قد تهشم تماماً، وقد مر أحد الحبال من بين الأسنان وشق الفم والوجنة اليمنى، وانكسر الفك وتدلى على جانب الوجه، وارتفع والوجنة الأعلى فبانت الأسنان البيضاء في الوجه المشقوق، وبدت العينان مفتوحتين وهما تنظران نظرة الميت الجامدة، ولم يبق من ملامح جثة الأمير إلا الجبين الواسع وبعض الشعر الأسود الذي تعفر بتراب الشارع . وبالقرب من وزارة الدفاع، كانت جمهرة الساحلين أربعة فتيان، لا يتجاوز عمر الواحد منهم الخمسة عشر عاماً، يبدو عليهم كأنهم تلاميذ مدرسة متوسطة، يتبعهم صبية صغار، حفاة الأقدام، قذرين الملابس، كلما تعب واحد من السحل سلم الحبل لبديل من هؤلاء الأطفال والفتيان.
وعلى مسافة أربعة أمتار من الجهة المسحولة، كان يسير موكب غوغاء بغداد، واوباشاها، واغلقت النساء الشبابيك، وهن يبعدن أطفالهن عن التطلع على هذا المنظر الذي تجمد له الأطراف لهول بشاعته . وأخيراً وصل الموكب أمام البوابة الخارجية لمبنى وزارة الدفاع، حيث وقف حشد كبير من الضباط والمراتب من مختلف وحدات بغداد لتقديم التهنئة والتأييد للثورة وللعقيد ( عبد اللطيف الدراجي ) الذي احتل وزارة الدفاع . ولم يتحرك أي من الضباط أو الجنود من أماكنهم للتطلع على ذلك المنظر المقزز للميت المقطع الأوصال ، بل لبثوا في أماكنهم، وقد ارتفعت أبصارهم وهم يحاولون النظر من بعيد.
وصلت الجثة الممزقة أمام وزارة الدفاع حيث يوجد قبالتها مقهى كبير، والى جانب المقهى يقوم بناء قديم من طابقين، وصعد أحدهم متسلقاً العمود الكهربائي المجاور للبناء، وعلق حبلا في شرفة الطابق الأول حيث وقفت في تلك الشرفة بعض النسوة والأطفال يتفرجن على الشارع، وادليت الحبال وربطت بها حبال الجثة، وتصايح الواقفون، ارفعوها، وبعد لحظات كانت الجثة ترتفع ثانية معلقة في الهواء وقد اندلقت امعاؤها، وتسلق عمود النور شاباً يحمل سكيناً بيده، وطعن الجثة بالظهر عدة طعنات، ثم اعمل سكينة في ( الدبر )، وراح يقطع اللحم صاعداً إلى فوق باتجاه الرأس، ومن الشارع جلبت عصا طويلة بيضاء، أدخلت في الجثة ودفعت بها دفعا ، والضباط والمراتب ينظرون إليها دون أن يتحركوا من أماكنهم ، رغم أن علامات امتعاض من هذه المناظر الوحشية كانت ترتسم على وجوههم جميعا. ;
وكانت خاتمة المطاف لجثة الأمير ( عبدالإله ) أن تناوب عليها الغوغاء والأوباش، وطافت اجزاؤها معظم شوارع بغداد، أما ما تبقى منها إلى مساء ذلك اليوم، فقد صبت عليها صفائح البترول، ثم حملت البقايا المحترقة، وألقيت في نهر دجلة، كما ابتلع نهر دجلة الأطراف التي كانت مبعث