منذ اكثر من خمسين عاما، كان قد وقع بين يدي كتاب صغير باللغة الفرنسية، بعنوان: Lettres de mon moulin وتعني رسائل طاحونتي او رسائل من طاحونتي. اما هذا الكتاب فقد كان يحوي اكثر من اقصوصة، حيث اتذكر ثلاث اقاصيص منها جيدا وهي: اكسير الأب كوشيه وبغلة البابا و قداديس الميلاد الثلاثة الصامتة. ويبدو ان جميع هذه الأقاصيص التي تنتقد رجال الكنيسة في القرن التاسع عشر، تنسب الى الروائي الفرنسي الساخر الفونس دوديه Alphonse Daudet 1840 – 1897.
في هذا المقال،
اقدم للقارئ الكريم، موجزا لأقصوصة اكسير الأب كوشيه L'élixir du Père Gaucher، عربته من الذاكرة بتصرف شديد، لكي يتبع هذا الموجز التعليق الذي يستحقه، والذي لن يختلف إلا قليلا عن التعليق الذي سوف يستنتجه القارئ بنفسه، عند قراءته اقصوصة اكسير الأب كوشيه. كما سنرى فيما بعد.
موجز قصة اكسير الأب كوشيه:
يقول الفونس دوده في اقصوصته: كان في بعض نواحي فرنسا دير يعود الى الآباء البيض. وقد كان هذا الدير من الناحية المادية قد وصل الى درجة من الفقر والعوز، حتى ان آباء الدير كانوا يفكرون بالتخلي عن موقع الدير والرحيل الى مكان آخر. وفي احد الأيام، بينما كان الرهبان مع رئيسهم مجتمعين للتباحث فيما يجب عمله لتدارك وضعهم المعيشي المتردي، وإذا بأحد الرهبان الصغار يستأذن بالدخول ليقول للرئيس وللرهبان المجتمعين: يا آبائي ان الأخ كوشيه Gaucher يطلب مقابلة رئيس الدير، لكي يدلي امامه وأمام مجلسكم الموقر، بكلام يخص الدير.
نظر الرهبان واحدهم الى الآخر وشرعوا يضحكون ويتهكمون قائلين: ترى ماذا سيقوله لنا هذا المجنون؟ وفي الحقيقة لم يكن الأخ كوشيه سوى طفل مشرد التقطته سيدة مسنة في المنطقة اسمها المدام بيكون Bégon ، فلما توفيت هذه السيدة ارسل الطفل المسكين الى الدير ليكون راهبا ولاجئا فيه، على الرغم من غبائه المطلق، ونقص قدرته على التعلم، حتى انه لم يستطع ان يتعلم اكثر من صلاتين صغيرتين لا يتجاوز عدد كلماتهما الخمسين كلمة. لذلك لم يستطع الأخ كوشيه ان يقوم بعمل، سوى ان يرعى بقرتي الدير على العشب النابت حول جدران الدير القديم، وبين ثنايا التبليط، كما تقول القصة. وهنا قال رئيس الدير بينه وبين نفسه: لنرى ماذا يريد ان يقول لنا هذا المجنون. فأمر بإدخاله الى قاعة المجلس. فدخل الأخ كوشيه مطأطئا رأسه ووقف قريبا من الرهبان المجتمعين حول رئيسهم، وقال بصوت خافت: يا ابتي لقد علمت انكم قد اجتمعتم من اجل التباحث في أمر صعوبات الدير المادية، او ربما في امكانية الرحيل من هذا الدير؟ فقال له رئيس الدير: بلى يا اخ كوشيه. فرفع كوشيه صوته قليلا وقال: لماذا ترحلون يا ابتي؟ انا املك سرا لصنع اكسير لذيذ ( كحول بنكهة الأعشاب ) لا مثيل له في الدنيا. سنصنعه، وان شاء الله سوف يدر علينا واردا محترما ونعمر به ديرنا.
وتقول القصة:
لقد بُهر الرهبان بما سمعوا، اما الرئيس فقد قام من على كرسيه واحتضن الأخ كوشيه وقال له، وابتسامة الأمل والارتياح تعلو شفتيه: ولكن اين تعلمت هذا السر ايها الأخ كوشيه؟ فقال الأخ كوشيه بارتياح: اتتذكر العمة بيكون يا ابي؟ ليرحمها الله، كانت امرأة شقية قضت كل عمرها في الطرب والغناء والاستهتار. لقد كانت تشرب الكحول الذي تصنعه بنفسها، وكانت تشرب كثيرا وتغني اغانيها الفاسدة: فليسامحها الله على خطاياها. قال الرئيس: ان الله غفور رحيم يا ابني. ولكن قل لي كيف عرفت سر العمة بيكون، ايها الأخ كوشيه. فقال الراهب: العمة بيكون كانت تصحبني معها الى الجبل وكنت اساعدها في قص الأعشاب التي كانت تعمل منها الاكسير. ثم اردف: اذا ساعدني الله فاني سأتذكر تلك الأعشاب واصنع منها عين الاكسير الذي كانت تصنعه العمة بيكون المرحومة. وهنا التفت الأب الرئيس الى مجلس مشورته وقال لهم: صحيح ان الأخ كوشيه سيصنع اكسيرا ) Liqueur ( مسكرا تنتج عنه خطايا كثيرة، لكن الأخ كوشيه بركة ارسلته لنا السماء لكي نخرج من حالتنا الصعبة. ثم ان اديرة كثيرة تعيش، هي كذلك، على واردات المشروبات الكحولية التي تصنعها في أديرتها، فما الضرر في ان نصنع هذه المشروبات الكحولية عندنا ايضا؟ فهز جميع اعضاء مجلس المشورة رؤوسهم علامة الموافقة على المشروع. بعد هذا الكلام قال الأب الرئيس للأخ كوشيه: انصرف الآن بسلام ايها الأخ كوشيه، وهيئ نفسك لصنع اكسيرك هذا.
فانطلق الأخ كوشيه وهيأ مع الرهبان الآخرين مستلزمات عمل الاكسير، بشكل كامل. وهكذا ابتدأ الأب كوشيه يصنع في القبو شرابه العجيب. وصار الشراب معروفا في المنطقة كلها، فتحسنت احوال الدير كثيرا، وصارت علامات الغنى تبدو عليه بشكل تدريجي. ولذلك صار الجميع يحترم الأخ كوشيه، كما صاروا، من تلك الأيام ينادونه بالأب كوشيه، عوضا عن الأخ كوشيه، مع العلم ان هذا اللقب لا يعطي في الكنيسة إلا للقسس وحدهم.
اما القبو نفسه، فقد تغير حاله هو الآخر، لأن ذلك القبو المهجور تحول الى معمل كبير، وصار الرهبان كل واحد يُسند اليه عمل يخص تجارة المشروب العجيب. وهكذا تحول الدير الى معمل، تقلصت فيه حصة الصلاة والتأمل كثيرا، على حساب حصة الروح.
وبديهي ان الأخ كوشيه، او بالأحرى الأب كوشيه، كان يملك كل الأدوات الضرورية لصنع الاكسير العجيب، ومن بين تلك الأدوات التي كان يملكها، أداة خاصة بقياس درجة الكحول. غير ان الأب كوشيه هذا، كان يحتاج ايضا ان يذوق بنفسه مشروبه، لكي يأتي المشروب على ما يرام. ولكن الذي حدث هو ان الأب كوشيه لم يكن يذوق مشروبه من اجل فحص جودته فقط، ولكنه كان يشرب من الاكسير من اجل اللذة التي كان يجدها فيه ايضا. ولذلك تقول القصة بأن الشيطان كان في كل مرة يغري الأب كوشيه، فيشرب من ذلك الاكسير العجيب اكثر مما كان يتحمل، فينتشي ويسكر بما يشرب. ومع ذلك فان الأمور لم تتوقف عند هذا الحد. فقد كان الأب كوشيه، كلما يشرب من اكسيره العجيب، يتذكر اغاني العمة بيكون الماجنة فيغني هذه الأغاني في سردابه المظلم، وهو في حالة نشوة وسكر عظيمين، حتى انه دخل الكنيسة يوما وهو في حالة سكر شديد، لا يعرف اذا كان المذبح امامه ام وراءه. وبدأ يصرخ ويعربد في الكنيسة. ثم فجأة بدأ يغني اغانيه الفاسدة التي كان قد تعلمها من العمة بيكون. وهنا، وأمام استغراب واستنكار جميع الرهبان ترك الرئيس كرسيه الجديد الفخم وتوجه الى حيث كان الأب كوشيه، لكي يتفادى الشكوك الذي حدثت. وقال للأب كوشيه: يبدو ان المشروب قد فاجأك ايها الأب كوشيه وخدعك. اليس كذلك؟ فقال الأب كوشيه: نعم يا بانا. وان شاء الله سوف اقاوم الشيطان، لكي لا يخدعني ثانية. واقتنع الرئيس بوعود الأب كوشيه وباركه وصرفه طالبا منه الوفاء بوعده. غير انه يبدو أن ما كان يهم الأب الرئيس لم يكن الأخ كوشيه، بل الإكسير العجيب وحده.
أما الأب كوشيه فلم يستطع مقاومة المشروب مرة اخرى وأخرى، وزاد استياء الرهبان منه. فدعاه الرئيس عنده ايضا وقال له: يبدو انك تسكر كل يوم ايها الأب كوشيه، ولا تستطيع ان توفي بوعدك. قال له الأب كوشيه: نعم يا ابتي، فقد كنت ضعيفا امام الشيطان. والآن ارجعني الى بقراتي ثانية ولن ادخل القبو بعد. فصرخ به الاب الرئيس قائلا له: ماذا تقول: اتريد ان تخرب ديرنا من جديد. كلا ابق في عملك. ومن الآن وصاعدا اعفيك من الصلاة مع الجماعة، ويكفي ان تصلي لوحدك اينما تكون. فمضى الأب كوشيه الى قبوه ومعمله وواصل حياة السكر والعربدة هناك. وتقول القصة: بينما كان الرهبان، في احد الأيام يصلون مع رئيسهم في الكنيسة، سمعوا الأب كوشيه يعربد ويغني اغانيه الماجنة في القبو. حينئذ بدء الرهبان يضحكون مخفين اوجههم ولحاهم بين صفحات كتاب الصلوات. فشعر الرئيس بالحرج ورفع صوته وبادر رهبانه بالقول: يا اخوتي لنصلي من اجل اخينا العزيز الأب كوشيه الذي يهلك روحه من اجل مصلحة الجماعة! ثم يقول كاتب القصة معلقا: انه ينال المغفرة في اثناء ارتكابه الخطيئة.
تعليقنا على الاقصوصة:
من يقرأ اقصوصة اكسير الأب كوشيه، يشعر ان الكاتب كان ينتقد سلوكية رئيس الدير ومجلس مشورته، اكثر مما كان ينتقد سلوكية الأخ كوشيه، الراهب البسيط والضعيف في عقله ومداركه وأخلاقه. وهنا خطر ببالي عنوان مقال وضعته قبل مدة على موقع كتاب عراقيون كان يقول: الخط الأعوج من الثور الكبير. وعليه نقول: لولا عقلية رئيس الدير الانتهازية والميكيافلية، ولولا حرص رئيس الدير على تحصيل المال، بأية وسيلة كانت، لزجر الأخ كوشيه منذ بدء انحرافه، لكي لا يصل الى ما وصل اليه.
الأقصوصة والحالة العراقية:
لذلك يمكن ان تنطبق اقصوصة اكسير الأب كوشيه على الحالة العراقية تماما. فصحيح ان عددا لا بأس به من ابناء العراق، سقط في الرذيلة سياسيا، كما سقط الأخ كوشيه، لكن الخطأ الأكبر والخطيئة المميتة جاءت من اقطاب السياسة الذين سموا أنفسهم بالمعارضة العراقية. ومرة اخرى نقول: لقد جاء الخط الأعوج من الثور الكبير. وهنا لا يسعنا سوى ان نقول بأن خطيئة هذه المعارضة تفوق خطيئة رئيس الدير ومجلس مشورته، بما لا يقاس، كما ان فخ الرذيلة الذي سقط فيه أتباع هذه المعارضة يفوق الفخ الذي سقط فيه الأخ كوشيه بتعاطيه المشروب الكحولي، بشكل غير مقبول.
الأقصوصة والحالة المسيحية:
على الرغم من ان المسيحيين عراقيون ويخضعون في تصرفاتهم لقواعد اخلاقية ووطنية مماثلة، إلا اننا نرى ان هناك خصوصية، لرذائل المسيحيين وخطاياهم، كما هناك خصوصية لفضائل المسيحيين وحسناتهم ايضا. وفي الواقع قد نتكلم يوما عن فضائل المسيحيين وحسناتهم، غير اننا لم ندرج هذه الأقصوصة في مقالنا، لكي نتكلم عن محاسن العراقيين، ومنهم المسيحيين تحديدا، وانما لنتكلم عن رذائلهم، في كل ما يتعلق برذيلة الميكيافلية وبقبول الاحتلال والمشاركة فيه والتصفيق للمحتلين، والحرص على ان يحقق المحتل نواياه الشريرة في العراق، مهما كلف اصرارهم على الشر من تضحيات.
اما الآن فإذا ما عدنا الى اقصوصتنا، وإذا ما ميزنا بين دور الأخ كوشيه ودور كل من رئيس الدير ومجلس مشورته، سوف نرى شبها كثيرا بين الأخ كوشيه الأهبل الذي كان يملك سر الاكسير الكحولي وبين كثير من المسيحيين الذين استجابوا للمؤامرة، وهم لم يصنعوا اكسيرا عجيبا، لكنهم صنعوا مناخا يساعد كثيرا على تمرير مؤامرات المحتلين الشريرة، منجذبين ببعض الرشاوى والامتيازات ووهم الحماية المزيف، كما تنجذب الفراشات والحشرات الأخرى الى ضوء المصباح الحارق، وكما كان الأخ كوشيه منجذبا الى طعم الاكسير الذي كان يصنعه فيشرب منه كثيرا وبشراهة، مع ملاحظة مهمة هنا تريد ان تقول ان سر اكسير المسيحيين بعد الاحتلال كان خاصة في المال المودع لدى السيد سركيس اغاجان الذي اسكر الكثيرين بإكسيره، حتى بدؤوا يصدحون امامه بأغاني العبيد امام اسيادهم.
إلا ان الخطأ الأكبر والخطيئة المميتة لم تأتي من الشعب المسكين المخدر بمخدرات كثيرة وبمسكرات لا تعد ولا تحصى، لكنه كان يأتي من قيادات المسيحيين الدينية التي لم تنبه مؤمنيها الى الخطر الروحي المحدق بهم، والتي تصرفت مع الاحتلال تصرفا ميكيافليا لا يليق برجال دين، يقولون عن انفسهم ان الله اختارهم لرسالتهم القسسية والأسقفية. فقد اندفع هؤلاء القسس والأساقفة وراء حاجاتهم المادية وحاجات كنائسهم، ولم يحسبوا حساب ان كل ما يعطى لهم له ثمن غال جدا، وليس مجانا، لا بل ربما لم يدر بخلدهم ان ما يعطى لهم لم يكن سوى مؤامرة المحتلين عليهم وعلى كنائسهم وعلى ابناء هذه الكنائس. اما الذين عرفوا الحقيقة فقد تصرفوا تصرف رئيس الدير ومجلس مشورته مع الأخ كوشيه، لأن اغراء الرشوة كان اكبر من ان يقاومه اناس غير مهيئين اخلاقيا وسياسيا وعلميا ولاهوتيا لمثل هذه الحالات. وعليه فنحن لا نستغرب، اذا ما برر هؤلاء السياسيين ما لا يجوز تبريره، وشرعنوا ما لا يمكن لأحد ان يشرعنه، وأن يروا في الاحتلال تحريرا وخلاصا، حتى ان رجال الدين هؤلاء تلاعبوا بطقوسهم الدينية، لكي تقوم هذه الطقوس المؤدلجة بواجب تخدير الناس، ولكي لا ينتبه احد من ابناء الكنائس الى ان ما يقوم به من مداهنة المحتلين، ومن قبول مشاريعه، والسكوت عليها، لا يرضي الله ولا يرضي اي ضمير سليم. وهنا طبعا كان كلام يسوع مغلقا على اذهان رجال ديننا، عندما قال: لابد ان تأتي الشكوك ( العثرات )، لكن الويل لمن تأتي العثرات على يده، فقد كان خيرا له ان يعلق حجر الرحى برقبته ويلقى في اعماق البحر.
أما السياسيون المسيحيون الذين انتحلوا صفة القومية تهربا من مطالب المسيحية الأخلاقية الصارمة، فإننا بالحقيقة لا نشبههم لا بالأخ كوشيه، ولا بالسياسيين العراقيين الآخرين، لأن اغلب السياسيين المسيحيين المزعومين ليسوا سياسيين اصلا، وانما هم مجرد عملاء مأجورين عند اساطين الاحتلال. كما اننا لا يسعنا ان نشبه سياسيينا بالأخ كوشيه الأهبل، لأن الهبل والشر لا يجتمعان معا. ففي الواقع وجدنا من أول يوم من أيام الاحتلال، ان السياسيين المسيحيين أناس يستخدمون عقولهم وقدراتهم على الكذب وعلى تزوير الحقائق، لحساب الشرير الأكبر: المحتل، دون ان ننسى ان تغيير هوية المسيحيين الى هوية شوفينية مزيفة جاء على طلب المحتلين انفسهم، كشرط وضعه المحتلون على عملائهم للاعتراف بأحزابهم الوهمية الكارتونية. غير ان غالبية رجال الدين المسيحي، الكبار منهم والصغار، اغمض عينيه عن هذا العدوان على هوية الشعب المسيحي، لكي لا يفقدوا مكاسبهم، حتى وان كانت مكاسب غير مشروعة. وقانا الله شر الميكيافلية والميكيافليين.