سـمير نقاش الـيهودي -العربي التائه ...
محمد علي الأتاسي
مات الكاتب اليهودي العراقي سمير نقاش في 7 تموز 2004. ويأتي موته ودفنه في إسرائيل ليطرح العديد من الأسئلة عن عجز الثقافة العربية عن الاعتراف بجانبها المغفل المرتبط باليهود العرب المعادين للصهيونية. هنا قراءة في سيرة سمير نقاش وفي أبعاد هذا الحدث.
في فيلم "إنسى بغداد" قدم المخرج السويسري من أصل عراقي سمير، بورتريه مركباً لأربعة مثقفين عراقيين من اليهود الذين إنتهى بهم المطاف في إسرائيل. أطل سمير نقاش للمرة الاولى على المشاهدين العرب من خلال قناة "العربية" التي عرضت الفيلم اخيراً، متحدثا إليهم بلهجته العراقية المحببة وملامحه العربية، راوياً مأساة الهجرة والغربة في إسرائيل.
كان سمير نقاش أكثر الشخصيات دراماتيكية في الفيلم وأشدها رفضا للفكرة الصهيونية ولدولة إسرائيل. روى كيف أخرج مرة من الباص وفتش وأهين على يد الشرطة الإسرائيلية بعدما وشت به إحدى الراكبات لكونه يقرأ صحيفة عربية ويحمل الملامح العربية!
هذه القصة كناية عن الحياة العابرة والقسرية التي عاشها سمير نقاش في الدولة العبرية قبل أن يغادرنا من دون أن يغادره العراق. لقد ظلت الثقافة العربية تسكنه من دون أن تسمح له بسكناها! أما إسرائيل فلم تقدم له إلا التهميش والعزل والعنصرية، لم تقدم له إلا الـ د.د.ت الذي رشت به اليهود العراقيين حال وصولهم إلى مطار بن غورين، كما يروي بحرقة في هذا الفيلم.
البغدادي الهائم
ولد سمير نقاش في بغداد في العام 1938 وعاش طفولته الأولى في حي البتاويين بين القصر الأبيض وساحة النصر. وهو ينتمي إلى أسرة بغدادية يهودية عريقة، آل شعيد، تنحدر بنسبها إلى بداية العصر العباسي.
ويقول سمير نقاش أن مهنة جده الصائغ وإتقانه النقش الفني، هي التي أعطت العائلة اسمها الجديد. ويفتخر بأن جده هو الذي نقش منائر جامع الكاظمين السبع. بدأ نقاش تعليمه في مدرسة تابعة للطائفة اليهودية في بغداد، وانتقل منها إلى مدرسة مدنية يملكها أستاذ لبناني.
في العام 1941 وقعت اضطرابات الفرهود الشهيرة ضد اليهود العراقيين، وكانت بداية سلسلة مؤسفة من الحوادث تواطأ فيها جهل العامة مع تصميم الوكالة اليهودية على تهجير اليهود العراقيين بأي ثمن إلى إسرائيل.
في العام 1950 قررت الحكومة العراقية إسقاط الجنسية العراقية عمن يرغب منهم وتسهيل سفره إلى إسرائيل. وغادرت عائلة سمير نقاش الميسورة الحال مضطرة إلى إسرائيل في العام 1951 وسمير لم يتجاوز الثالثة عشرة من العمر. ومنذ وصولهم إلى إسرائيل واستقبالهم في مخيمات اللاجئين حاول والد سمير بشتى الوسائل مغادرة الدولة العبرية من دون جدوى، ومات قهراً مورثاً ابنه التصميم على عدم قبول الأمر الواقع وعدم الاعتراف بإسرائيل كوطن بديل من العراق وإبقاء الرغبة الملحة بمغادرتها.
يقول سمير نقاش في مقابلة أجرتها معه جريدة "الشرق الأوسط" في شأن هذه الهجرة القسرية وضرورة الخلاص منها: "قرار مغادرة إسرائيل ليس فجائياً، ولا علاقة له بالسياسة ولا بالأدب. انه قرار قديم منذ وطئت أقدامنا أرض إسرائيل، قررت العائلة مغادرتها. وبذل والدي مجهوداً جباراً مع مجموعة من مثقفي العراق للخروج، بيد أن إسرائيل أحبطت كل هذه المحاولات، ولم يصمد والدي أمام هذه الصدمة، فمات مبكراً عام 1953 اثر نزيف في الدماغ".
بعد عام من ذلك حاول سمير مع ابن عم له مغادرة إسرائيل على الأقدام إلى لبنان لكن السلطات اللبنانية اعتقلته وأودع السجن ستة أشهر وأعيد بعدها إلى إسرائيل التي اعتقلته بدورها خمسة أشهر وعذبته بتهمة الجاسوسية. لكن سمير لم ييأس ولم يستكن إلى هذه الهوية الإسرائيلية التي تريد أن تفرض عليه قسراً، وظل مسكونا بهاجس العودة إلى بغداد والحفاظ على هويته العربية.
وفي ظل إغلاق أبواب العواصم العربية في وجهه، راح يبحث عن أماكن أخرى تقربه من بلده الوحيد والمستحيل العراق. وعن هذا الارتحال بلا نهاية إلى بغداد، يقول في المقابلة نفسها: "في 1958، حاولت أن أجد منفذاً جديداً، فذهبت إلى تركيا وإيران فالهند، ثم إلى إيران ثانية حيث بقيت أربع سنوات. لكنني اضطررت للعودة إلى إسرائيل، وبعد إبرام معاهدة السلام مع مصر، حاولت الانتقال إليها، من دون جدوى، وكذلك الأمر مع المغرب الذي استقبل فقط مواطنيه اليهود. وها أنذا، أخيراً، في بريطانيا رغم تحفظي عن الغرب عموماً، وكنت أتمنى أن استقر في أي بلد عربي".
في بريطانيا أقام سمير نقاش لمدة أربع سنوات وعمل في إحدى صحف المعارضة العراقية. ومع انتقال هذه الصحيفة مع الكثير من كتابها إلى العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، ضاقت السبل في وجهه وصعبت عليه تكاليف المعيشة والعلاج في بريطانيا فعاد إلى إسرائيل مضطراً وموقتاً، لكنه مات بعد أقل من شهرين من وصوله إلى بلدة بتاح تكفا أو "بيت التقوى" كما كان يصر أن يسميها باسمها الأصلي.
ولمن يظن من القراء أن سمير نقاش خضع في النهاية لمصيره وعاد إلى إسرائيل ليموت فيها، ما عليه إلا أن يقرأ العبارات الآتية التي قالها قبل أشهر من وفاته وهو لم يزل في بريطانيا: "لقد وصلت إسرائيل وأنا في الثالثة عشرة، عراقياً غريباً وتركتها بعد خمسين عاماً كما تركها أبي عربياً قحاً. وحتى لو اضطررت إلى العودة إليها فسأظل هذا العراقي العربي المخلص للغته وتراثه".
اللغة وطنه الأخير
إخلاص سمير نقاش للغته العربية، وإصراره على الكتابة بها، جعلت منه أحد الأدباء القلائل من اليهود العرب، الذي ظل يكتب وينشر بالعربية من داخل إسرائيل، رغم الصعوبات البيروقراطية وقلة القراء وانقطاع التواصل مع العالم العربي.
نشر مجموعته القصصية الأولى في العام 1971 تحت عنوان "الخطأ"، وأصدر بعدها 12 كتابا موزعة بين الروايات والمسرحيات والقصص القصيرة، آخرها روايته التي صدرت عن دار "الجمل" في ألمانيا بعنوان "شلومو الكردي وأنا والزمن". تستحضر معظم أعمال سمير نقاش سيرته الذاتيه وأجواء بغداد النصف الأول من القرن العشرين.
وإذا كان يكتب بالفصحى، فإن معظم أعماله زاخرة باللهجات العامية العراقية وفي الأخص منها عامية يهود بغداد، التي باتت اليوم شبه منقرضة. وبالرغم من سيطرة الذاكرة والتاريخ وخصوصية يهود العراق على أغلب أعماله فإن سمير نقاش بقي مسكونا بهاجس البعد الإنساني الأشمل للأدب وبالخصوصية التي تحاكي العالمية، وفي هذا المجال يقول: "هل يمكن أحداً أن يخرج من جلده؟ أنا كانسان، عراقي أصيل بكل جوارحي، احمل بجنباتي تاريخاً شديد القدم من العراقية، تكويني كله عراقي، لغتي، عاداتي، الطعام الذي أحبه، الموسيقى التي أفضلها، الأناس الذين أرتاح إليهم، كل ذلك عراقي بحت.
أما ككاتب فأعتقد أن على كل كاتب أن يطمح إلى الشمولية الإنسانية والعالمية" لكن لا خصوصيته العراقية ولا نزعته الإنسانية شفعت له عند أبناء جلدته وثقافته من العرب والعراقيين أو عند أبناء طائفته من اليهود الإسرائيليين!
فاسم سمير نقاش بقي غائبا عن فضاء الثقافة العربية وكتبه مفقودة من أسواقها ومعارض كتبها، وحتى في بيروت يكاد يكون من المستحيل العثور على رواية له. أما في إسرائيل فإن معظم كتبه لم يترجم إلى العبرية ولم يعترف به قط كواحد من كتابها وظل فيها غريب الوجه واليد واللسان.
وفي هذا المجال يقول: "العربية هي لغتي ولا أعرف من اللغات سواها، وقد ذكرت قبل قليل كلمة قوقعتي فأنا كنت أعيش في إسرائيل منذ أول لحظة داخل هذه القوقعة، لم أتأثر بالثقافة الغربية السائدة في إسرائيل ولم أجد لغتها حتى الآن، وحتى لو حاولت الكتابة بالعبرية كما فعل شمعون بلاص وسامي ميخائيل وغيرهما لما استطعت... المتاعب الحقيقية التي يعاني منها كاتب أو شاعر في إسرائيل هو اليهودي العراقي الذي يكتب بالعربية، إذ لا يعترف به احد. فلا هو معدود بين الكتاب العبريين ولا بين الكتاب العرب، ومن هنا حرمانه من كل المخصصات والجوائز ومساندة النشر حكومياً إلى غير ذلك من حقوق الأديب"
يهودي وعربي
تشكل سيرة سمير نقاش التراجيدية إدانة أخلاقية دامغة ليس فقط لجوهر الفكر الصهيوني ولأسس قيام دولة إسرائيل، لكنها في الآن نفسه إدانة للكيفية التي تعاملت بها الدول العربية مع أقلياتها اليهودية، وإدانة للطريقة التي تغلغلت فيها مسلّمات الفكر الصهيوني إلى الثقافة العربية الراهنة ولو بشكل معكوس. بحيث بات المتن الأوسع من هذه الثقافة يتبنى المسلّمات نفسها، وإن كان يوظفها بشكل معكوس لتغذية عدائه ليس فقط للدولة العبرية ولكن لكل ما هو يهودي!
لقد سحبت الصهيونية دائرة النقاش الفكري والصراع السياسي إلى مجالها الديني المليء بالأساطير والأكاذيب، ولم تفعل الثقافة والسياسة العربيتان سوى الانزلاق إلى هذا المجال الموبوء وتبني منطقه الأعوج.
لقد بدأ العرب عموماً والمشرقيون خصوصا نهضتهم المجهضة في نهاية القرن التاسع عشر تحت شعار "الدين لله والوطن للجميع"، وتمردوا على السلطنة العثمانية وحاولوا بناء دولهم الوطنية ضمن هذا المنظور.
لكن الاستعمار الأوروبي لم يجهض فقط أحلامهم الوليدة، بل صدّر لهم مشاكله مع أقلياته اليهودية زرع في القلب منهم أول دولة دينية حديثة في المنطقة.
لم تعرف المنطقة العربية ولا الثقافة العربية -الإسلامية على امتداد تاريخها الطويل فكراً معادياً للسامية، وعلى الرغم من وضعية أهل الذمة التي شارك فيها اليهود لقرون عدة باقي الأقليات الدينية في البلدان العربية والإسلامية، فإنهم مع ذلك لم يضطهدوا كيهود ولم ترتكب في حقهم مجازر وجرائم من مثل تلك التي ارتكبت ضدهم في الغرب الأوروبي.
لكن الخمسين سنة الماضية شهدت انزلاقا عربياً تدريجيا بدأ من الموقف المبدئي الذي يدين الصهيونية لكونها أيديولوجيا عنصرية تخلط بين الدين والقومية، مرورا بالموقف الذي يرى في كل يهودي إسرائيلياً محتملاً، وصولا إلى اعتبار كل أتباع الديانة اليهودية أتباعا لدولة إسرائيل. وهذا بالضبط هو جوهر الفكرة الصهيونية المغلوط!
ولكي نزيد الطين بلة، رحنا نستورد اردأ ما أنتجه الفكر الغربي المعادي للسامية من كليشيهات عن غدر اليهود ومراباتهم وبروتوكولاتهم. بل وأسدلنا المقدس على هذا النوع من التفكير وأتينا ببعض آيات القرآن وفسرناها في الاتجاه نفسه وعممناه على اليهود في كل زمان ومكان، ونسينا غيرها من الآيات التي تتقرب منهم وتدعو إلى حسن معاملتهم.
قبل سنوات حاول المشرفون على "مسرح بيروت" دعوة بعض اليهود العرب المعادين للصهيونية إلى العاصمة اللبنانية للمشاركة في النشاطات التي كانت تقام في ذكرى النكبة، لكن محاولتهم الجريئة باءت بالفشل بسبب التهديد الذي تعرضوا له.
وها نحن اليوم نسأل من جديد أليس من المعيب أن يغادر عالمنا كاتب في حجم سمير نقاش، من دون أن تتاح له الفرصة لزيارة أي عاصمة عربية، ومن دون أن يشارك في أي ندوة أو حلقة دراسية عن الرواية العربية المعاصرة التي تشكل أعماله جزءا لا يتجزأ منها؟
لو لم يكن سمير نقاش وشمعون بلاص وسيمون بيتون وسليم نسيب وأدمون عمران المليح وغيرهم من اليهود العرب المعادين للصهيونية موجودين، لكان علينا أن نخترع مثلهم لنبين كذب الدعاية الصهيونية وزيف الأسس التي قامت عليها.
لكننا إلى اليوم في الدول العربية لا نزال نرفض أن نراهم ونتفاعل معهم ونعيدهم إلى متن الثقافة العربية، التي هي منهم بقدر ما هم منها.
يبقى أن سمير نقاش رحل عن عالمنا كاتبا عربيا عراقيا قحا، رغم أنف إسرائيل ودعايتها الصهيونية، ورغم أنف أعدائها اللدودين وشركائها الحميمين في فكرة الدولة الدينية.