المواجهات العنيفة التي شهدتها مدينة بون الالمانية مساء السبت الماضي بين اليمين الالماني المتطرف والسلفيين الاسلاميين المتشددين كانت متوقعة، وكانت الاجهزة الامنية في حالة استنفار لمواجهة مثل هذه المصادمات المحتملة، ورغم ذلك جُرح حوالي 30 شرطي وشرطية اثنان منهم في حالة خطيرة فضلا عن عشرات الجرحى بين طرفي النزاع، حصول مثل هذه المصادمات العنيفة التي أُستخدمت فيها السكاكين العصي والحجارة ورشاشات الفلفل الحار في بون وسولنغن و مدن اخرى يثير قلق الحكومة الالمانية من تداعيات ذلك على السلم الاهلي في داخل المانيا فضلا عن احتمال تعرض المصالح الالمانية في العالمين العربي والاسلامي لخطر الاعتداءات.
الحملة الاستعراضية الواسعة التي اطلقتها منذ ثلاثة اشهر جماعة سلفية اسلامية تحت عنوان (اقرأ) لتوزيع 25 مليون نسخة من القرآن الكريم مترجمة الى اللغة الالمانية مجانا على المارة في المدن الالمانية مازالت تثير الكثير من الجدل في الاوساط الحكومية والشعبية، وتمثل المواجهات العنيفة الاخيرة بين اليمين الالماني المتشدد وجماعات السلفيين الاسلاميين احدى عقابيلها المتوقعة، فلكل فعل رد فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه كما يقول نيوتن، ومن هنا جاءت مظاهرات اليمين المتطرف تحمل اللوحات الكاريكاتورية المسيئة للاسلام، ومن الجدير بالذكر ان هذا اليمين يخوض حملة ضارية منذ سنوات طويلة لوقف بناء المساجد في المانيا.
الدستور الالماني يكفل في مادته الرابعة حريات الأيمان والضمير والانتماء الديني والعقائدي وينص على ضمان عدم التعرض لممارسة الشعائر الدينية، وبالتالي فان الحكومة الالمانية لاتعترض على طباعة وتوزيع الكتب الدينية سواء كانت أسلامية او غيرها، لكنها تشعر بقلق من الجهة التي تقف وراء هذه الحملة وهي سلفية متشددة ولاتتمتع بعلاقات جيدة مع المنظمات والجمعيات الاسلامية المعتدلة في المانيا كما ان الحكومة تخشى ايضا من موقف اليمين المتطرف او جهات مسيحية ترى في هذه الحملة انتهاكا لهوية وثقافة المجتمع الالماني.
يعيش في المانيا حوالي 4 مليون مسلم ومسلمة غالبيتهم من الاتراك الذي يشكلون حوالي مليونين ونصف المليون، ووفقا لبيانات الشرطة الالمانية فان الجماعة السلفية لايتجاوز عدد اعضائها خمسة آلاف يقودها الفلسطيني الاصل ابراهيم ابوناجي الذي يقيم في المانيا منذ ثلاثين عاما، وهو يدير جمعية (الدين الحقيقي) التي تشرف على حملة اقرأ لتوزيع القرآن الكريم.
يقدر خبراء الطباعة في المانيا كلفة النسخة الواحدة من القرآن الكريم بحوالي اربعة يورو والذي تجري طباعته في مطابع المانية حديثة، وبالتالي تصل تكاليف طباعة 25 مليون نسخة الى 100 مليون يورو وهو مبلغ كبير جدا لا تستطيع جمعية صغيرة (الدين الحقيقي) تأمينه من خلال التبرعات كما تزعم ذلك، اوساط المانية ترجح تمويل دولة عربية غنية لمثل هذه الحملة، من المحتمل ان تكون السعودية، ويذكر ان المانيا منحت الكثير من الترخيصات في السنوات الاخيرة لبناء مساجد ضخمة في العديد من المدن الالمانية الكبيرة ، الامر الذي اثار احتجاجات واسعة في اوساط اليمين المتطرف.
والسؤال المهم الذي يطرح نفسه، هل ان هذا الاستعراض الاستفزازي في توزيع القرآن الكريم مفيد لصورة الاسلام ومستقبل المسلمين في هذا البلد الاوروبي؟ سياسيون وكتاب وصحفيون المان تساءلوا في تعليقاتهم عن امكانية توزيع الانجيل مجانا على المارة فضلا عن القيام بحملات مسيحية تبشيرية واسعة في البلدان العربية والاسلامية???، لكن الخطر الاكبر يتمثل في ردود فعل اليمين المتطرف العنيفة والتي قد تطال مسلمين او مسلمات محجبات بريئات، واكثر مايقلق الحكومة الالمانية قيام اليمين المتطرف في اطار حملته لمواجهة السلفيين بالاعلان عن مسابقة للرسوم الكاريكاتورية المسيئة للاسلام فضلا عن احتمالات حرق القرآن او تدنيسه، الامر الذي يسبب لالمانيا مشاكل داخلية وخارجية.
البعض من المسلمين لايكترثون للاسف لمشاعر المجتمعات الاوروبية التي ينعمون بالعيش فيها ويستغلون فضاءات الحرية الواسعة التي تتيحها هذه المجتمعات، حملة توزيع القرآن وانتشار المنقبات والرجال من ذوي اللحى واللباس الافغاني في الشوارع والاسواق تثير استياء واسعا في الاوساط الشعبية والسياسية، صحيح ان الكثير من هؤلاء اكتسبوا الجنسية الالمانية ويمتلكون صوتا انتخابيا وبالتالي يريدون ممارسة حرياتهم في اطار الدستور الالماني، لكن الاعراف ترقى احيانا الى مرتبة القانون، وبريطانيا مثلا لا تعتمد قوانين مكتوبة ويحكم القضاء وفقا لقواعد قانونية واعراف اجتماعية شفاهية.
ومن الملفت للنظر قدرة السلفيين الاسلاميين على اقناع العديد من الالمان في الدخول في الجماعة السلفية، ولعل ابرزهم الملاكم الالماني بيار فوغل الذي أعلن اسلامه عام 2001 واصبح اليوم قياديا في اوساط الجماعة، الجماعة السلفية تدفع هؤلاء الالمان وتضعهم في الواجهة وتحرضهم ليكونوا الصوت الاعلى والاكثر تشددا في مواجهة السلطات الالمانية، وقد بلغ الامر بهؤلاء دعوة السلطات الى تطبيق الشريعة الاسلامية في الاحياء ذات الغالبية الاسلامية والتي تعاني من مشاكل امنية ومن انتشار ظاهرة الاتجار بالمخدرات.
ترعى الدول الاوروبية ومن بينها المانيا العديد من الاقليات الدينية المسلمة القادمة من الشرق الوسط ذات الطبيعة المسالمة وتقدم لهم التسهيلات والدعم في بناء المساجد والمعابد وفي ممارسة طقوسهم الدينية، مثل المعتدلين من السنة، والشيعة والعلويين فضلا عن أقليات دينية اخرى مثل الصابئة المندائيين والايزيدين ومسيحي الشرق والهندوس والبوذيين وغيرهم حيث يعيش في المانيا مواطنون واجانب ينتمون الى اكثر من مائة قومية ودين.
يبدو ان الحركات السلفية التي تعيش ذروة ربيعها هذه الايام في مصر وتونس وليبيا وبدرجة اقل في اليمن وسوريا تريد نقل نشاطها الى اوروبا بدءاَ من المانيا التي تتعامل بمرونة اكبر من اخواتها الاوروبيات مع حريات الاديان