لا احسد نفسي لاني في لندن وقت اولمبياد2012 . اسباب عدم الحسد كثيرة وكلها خارجة عن ارادتي من الفحوصات الطبية الى قلة الحيلة للعودة الى العراق الى ضيق ذات اليد. البرد والمطر لم يفارقا لندن منذ ثلاثة اشهر حتى ترطبت اجسامنا واصفر الرشاد العراقي الذي جلبت بذوره من العراق وزرعته في لندن . اما الفجل الابيض الذي اشتراه لي ابو علي بمعرفته من سوق النجف فلم ير الشمس، وظلت التربة تنز ماء الامطار اليومي. فماقيمة فجل عراقي دون ارض دافئة وشمس ساطعة؟.لكن اولمبياد لندن يعلمنا الكثير.تابعت برنامجا وثائقيا على شاشة بي بي سي عن (صناعات) الاولمبياد. تابع الفلم الخطوات الاولى ،وكيفية اختيار الارض التي تقام عليها هذه الفعالية والاهداف الاقتصادية والاجتماعية المتوخاة من اختيار المنطقة. شرق لندن تعتبر من المناطق الفقيرة والقديمة جدا. فلندن نشأت في الجانب الشرقي كما نشأت بغداد في الجانب الغربي. وفي لندن مناطق قديمة اسميها مناطق الشيخ عمر في لندن لقدمها وبؤسها الشكلي(الذي لايشبه بؤس مناطق الشيخ عمر الا من حيث قدمها والمصانع الصغيرة التي فيها) فكل الخدمات التي توجد فيها هي مايوجد في لندن كافة. وتعتبر المناطق الشرقية معزولة نسبيا عن النشاطات التجارية التي تميز لندن وهي في الوسط والغرب.وقد حاولت المرأة الحديدية مارغريت تاتشر، في منتصف ثمانينات القرن الماضي، احياء مناطق شرق لندن التي كانت تنطلق منها البواخر نحو الهند ومنها منطقة غرينيتش الشهيرة حيث يمكنك ان ترى دائرة صغيرة بقطر متر تقريبا على الارض ،حيث التوقيت المرتبط بغرينيتش والذي يختلف عن توقيت العالم. فاذا وضعت قدما على نصف الدائرة الجنوبي ووضعت القدم الاخرى على نصف الدائرة الشمالي سيكون الفرق بين موضع قدميك ساعة كاملة. وقد استثمرت شركات كندية مبلغ 11 مليار دولارفي منطقة كنيري وولف، الميناء الشهير الذي كانت تنطلق منه السفن نحو الهند والعالم وشيدت اعلى بناية في لندن هناك لكن المنطقة لم تجذب الشركات التجارية الكبرى. اما الان فقد تحولت هذه المنطقة الى قبلة العالم طوال فترة الالعاب الاولمبية. تحدث الفلم الوثائقي عن الفترة التي استغرقتها تصاميم الملاعب والمسابح( تصميم المسبح فازت به المعمارية العراقية زها حديد) وبدأ يعرض التخطيطات الاولى للمصميين والمعماريين والنجارين والحدادين والزجاجين والبنائين والصباغين والرسامين والنحاتين وكل القطاعات التي اشتركت في تجسيد هذا العمل الجبار. وتابع الفلم التخطيطات الاولى للنصب الذي اقيم في المنطقة والذي دخلت التكنولوجيا الحديثة في تنفيذه. وستدخل ادق الصناعات التكنولوجية في اكمال اولمبياد لندن 2012 فالرياضة اصبحت صناعة مهمة، سواء صناعة رياضية تدر المليارات، او صناعة اعلامية تتنافس عليها ،هي الاخرى، كبريات شركات الاعلام للحصول على ارباح مليارية، او صناعة الملابس والادوات والاجهزة الرياضية التي لاتتوقف عن الابتكارات والتصاميم. انه العالم المعاصر الذي نرفض ان ندخل فيه ونعتبره عالما اباحيا وخلاعيا وكافرا ونصرانيا وعلمانيا وامبرياليا وطاغوتا وشيطانا وكأننا نحن الذي نملك صكوك الغفران للبشرية. الحكومة البريطانية سهرانة حتى نهاية الاولمبياد على الصعيد الامني كان الامر اكثر تعقيدا ايضا. 19الف شرطي ورجل امن سيحرسون آلاف الرياضيين وملايين المتفرجين، وهو ضعف عدد القوات البريطانية التي تشارك في الحرب في افغانستان. بدأ العدد بثلاثة عشر الف لكنهم رأوه غير كاف ،فاضيف له ثلاثة الاف من المسرحين الذين انهوا خدمتهم( انتهاء الخدمة العسكرية غير مرتبط بالسن وانما بالمهمة الموكلة اليهم غالبا) لكنهم خشوا على حياة الناس فاضيف اليهم ثلاثة الاف آخرين في وضع يتذكر فيه الناس اولمبياد ميونيخ عام 1972وهجوم جماعة ايلول الاسود بقيادة ابي داوود على الوفد الاسرائيلي فضلا عن تصاعد موجات الارهاب الديني ومنها تلك التي ضربت لندن في السابع من الشهر السابع عام2005 وتبدو بريطانيا في ورطة اكثر منها في راحة بال. فحياة الناس هي هدف الدولة.والحفاظ عليها اهم وظائف الدولة في العقد الاجتماعي الذي صنع الديمقراطية.ولن ترتاح بريطانيا حتى تنتهي دورة الالعاب دون اي حادث.تلك هي مسؤولية الحكومات التي تعتبر حماية مواطني دولها واجبها السياسي والوطني والاخلاقي والدستوري.فالتقصير في حماية المواطنين لاتحمد عقباه في الدولة الديمقراطية اذ تدفع الحكومة ثمنه الباهض. فالحكومة الديمقراطية تخاف من مواطنيها.اما في بلداننا فان المواطنين يخافون من الحكومات اكثر مما تخاف الحكومات من مواطنيها الذين تجعلهم هدفا لقمعها واستبدادها.ولذلك قال وزير الدفاع البريطاني من ان حكومته ستنشر صواريخ مضادة للطائرات لحماية الالعاب ، كما تم تخصيص ميزانية تبلغ ضعف مبلغ المنشئآت للخطة الامنية ومع هذا هناك تخوف من عدم كفاية هذه المبالغ وقد اجتمعت منذ اكثر من عام تقريبا لجان الحكومة بقضها وقضيضها كما يقول العرب لبحث مشكلات قد تعترض الاولمبياد مثل النقل البري والجوي حيث يمكن ان تتاخر طائرات الركاب العاديين ساعتين او اكثر للسماح لطائرات الوفود بالهبوط في موعدها وتم تخصيص ممر خاص من الممرات الثلاثة للطرق السريعة لوفود الاولمبياد من الرياضيين والاداريين والمرافقين منع الدخول اليه من قبل السيارات العادية وفرضت غرامة مرورية على من يخرق ذلك ووضعت علامة الاولمبياد على مداخل ومخارج هذا الممر لكي يعرف الناس الممنوع من المسموح، اي تماما كما يحدث عندنا في العراق.فالاولمبياد لايعطل حياة المواطنين وفي نفس الوقت يوفر السرعة للمناسبة، وتم تخفيض عدد الرحلات بالنسبة للحافلات ولمترو الانفاق بنسبة 13% لغير المشاركين خلال فترة اقامة الدورة الاولمبية. وقد اتضح ان مسؤولين في اكثر من 54 لجنة اولمبية في دول مختلفة قد باعت تذاكرها في السوق السوداء باسعار خيالية ويجري تحقيق الان من قبل لجنة الاخلاق في اللجنة الدولية. اي ان الاخلاق ضرورية جدا لكي تستخدم القانون ضد الفساد. وكان تقرير للصنداي تايمز قد كشف ذلك وهذا يدل ايضا على اهمية وسائل الاعلام في كشف الفساد والحد منه فكيف اذا كانت وسائل الاعلام نفسها جزء من الفساد في العراق؟ واصدرت اللجنة الاولمبية الدولية بيانا قالت فيه( ان العديد من اللجان الاولمبية الوطنية والبائعين المعتمدين انتهكوا اللوائح عبر عرض شراء او بيع تذاكر خارج الاقليم وبيع التذاكر باسعار مضخمة) وقال البيان ان اللجنة الاولمبية تتعامل مع هذه الادعاءات بمنتهى الصرامة وفي حال ثبوت اي مخالفات فان اللجنة ستتعامل مع هؤلاء المتورطين بالشكل المناسب). حتى في حال وجود فساد فان الحساب موجود.والضمير حي والقانون يقظان. الشعلة الاولمبية ديفيد بيكام ، الايقونة الرياضية لبريطانيا ( اذا كان احدنا مشروعا لايقونة رياضية او ثقافية او فكرية او فنية او انسانية او سياسية نادىت الجموع السياسية والثقافية لتحطيم هذا المشروع قبل ان يتحول الى ايقونة) اختار رياضية سوداء ضمن ثمانية الاف رياضي يحملون ثمانية الاف شعلة مثقبة بثمانية الاف ثقب، صنعت على مدى اشهر، وخضعت للتجارب لمدة شهرين ، حتى عثروا على طريقة ليزرية لتخفيف الحرارة وابقاء الشعلة بيد الراكضين حيث ثقبت الشعلة المخروطية بثمانية الاف تثقب على عدد من يحملونها الى (مثواها) الاخير في اعلى الملعب الرئيسي حيث ستظل مشتعلة كما ظل لهب مصافي الدورة في جنوب بغداد مشتعلا يحرق الغاز منذ سبعين سنة دون ان نبيع منه قدما مكعبا واحدا او كما ظلت شعلة بابا كركر نارا ازلية دون فائدة. وأشار المصمَّمان اللذان صمماها إلى أنَّ الشعلة خفيفة الوزن، بحيث يسهل على المتبرِّعين اليافعين حملها خلال عملية نقلها إلى الاستاد الرئيسي شرقي لندن، إذ ستتراوح أعمار العديد من حملة الشعلة التي يبلغ طولها 80 سنتمترا بين الـ 12 و24 عاماوقد صنعت من خليط الألمنيوم من النوع الذي يُستخدم عادة في صناعة الطائرات والسيارات. وحين قلت ان التكنولوجيا الدقيقة دخلت في الاولمبياد فان دراجات المقعدين، او ذوي الاحتياجات الخاصة، صممتها شركة تصنع طائرات حربية وجربت في انفاق مفرغة من الهواء لتضمن سرعة جديدة للمقعدين في سباقاتهم. جماليات لندن وجماليات بغداد الخبراء والسياسيون والمسؤولون المكلفون بالاشراف على منشئات الاولمبياد يحترمون الجماليات . من جماليات المكان الي جماليات الاشكال وجماليات الحديد( نصب الاولمبياد لمصمميين تشكيليين) وجماليات الاسمنت والزجاج وعلاقة ما يبنى بمعمار لندن القديم والحديث. رئيس اللجنة اللورد كو الذي كان بطلا اولمبيا في ركضة الخمسة الاف متر لاكثر من مرة، قال اننا نحاول ادخال الجديد بالقديم للحصول على جماليا متناسقة. وايده عمدة لندن جونسون بوريس ذو الشعر الهيبي (الذي يستخدم البايسكل في ذهابه الى عمله وعودته منه) كما ايد أمين عاصمتنا الفذ ، اللورد علي ( الذي مزج في جمالياته بين المرجعية وبين الرياضة) فاخرجا لنا عاصمة تجمع بين النفايات والخراب والارصفة المصبوغة بملايين الدولارات. ولكي يدخل التراث الشعبي البريطاني الى الالعاب الاولمبية فان غودايفا Godiva تحولت الى مسيرة محفوفة بالمغامرات لتصل لندن يوم الافتتاح. ومن اجل ذلك صممت شركة خاصة اربعين دراجة هوائية (بايسكلات) لترافق وتحمل غود ايفا التي صنعت لها دمية عملاقة تصحبها الدراجات الاربعون من منطقة كوفينتري الى لندن.لكن المشكلة ان الطرق من كوفينتري الى لندن تمر تحت جسور وقناطر، فجاء دور العلم ليخفظ ارتفاع الدراجات ميكانيكيا اثناء المرور تحت القناطر والجسور لينخفظ ارتفاع التمثال العملاق. لكن من هي غودايفا. تقول الاسطورة انها سيدة جميلة جدا من اصل نبيل ( لا علاقة لي بها ابدا) . وكانت انكلو *** ونية ،عاشت بين القرنين العاشر والحادي عشر. وكانت زوجة ليوفريك ، ايرل مريسيا. والايرل لقب نبالة اقل من لقب الامير متعلق بالمرحلة الاقطاعية، واصبحت شخصية اسطورية لمدينة كوفينتري لانها امتطت ظهر حصانها عارية تماما وسارت في شوارع المدينة هكذا في تظاهرة احتجاجا على الضرائب المرتفعة التي يفرضها زوجها على المستأجرين للاراضي والمنازل .وقد صنع نحاتان تمثالين لهذه السيدة وهي تركب عارية ظهر جوادها. وسميت باسمها اجود انواع الجكليت والنستلات والمحلات الكبرى. حتى الآن بيع اكثر من سبعة ملايين تذكرة تتراوح اسعارها بين 20جنيها استرلينا ( مايعادل 36 دولارا ) و 2012جنيها.فيما اكملت اوركسترا لندن السيمفونية تسجيل الاناشيد الوطنية للدول المشاركة في الاولمبياد.وخصصت الحكومة البريطانية ميزانية تبلغ 15 مليار دولار ستصرف كلها دون ان يسرق منها دولار واحد ودون ان تتم رشوة اي موظف بدولار واحد ودون ان يهدر دولار واحد فقد حذر مكتب التدقيق المالي الذي يشرف على الانفاق في بريطانيا من ان المبلغ قد لايكفي بسبب ضخامة التكاليف وانه ليس هناك مبالغ اضافية. ماذا نستنتج من كل تلك القصص؟ انه استنتاج واحد وهو: اولا: اهمية التخطيط المعتمد على الخبرات والكفاءات والمنافع العامة. ثانيا:تحديد الاهداف العامة التي تخدم اكبر عدد ممكن من المواطنين واستغلال المناسبات والفعاليات لتحقيق هذا الهدف. ثالثا: تطوير العلوم والتقنيات من خلال ربطها بالمناسبات والفعاليات الكبرى. رابعا:تنظيم الحياة العامة للمواطنين بحيث لاتؤثر مثل هذه المناسبات على انسياب حياة الناس وعرقلة عملهم وممارساتهم اليومية فلم يتم قطع الطرق وغلق المطارات والجسور والاسواق والمؤسسات الرسمية وعطيل مرافق الدولة وايقاف وسائل النقل ومنع المواطنين من مزاولة اعمالهم وهواياتهم وحرفهم وتنقلهم وزياراتهم ومدارسهم ومراجعة مستشفياتهم. خامسا:ضبط الامن موحد للفعالية وللمواطنين في وقت واحد وعلى حد سواء فلايكون توفير الامن لمناسبة ما عبئا على المواطنين. سادسا:استخدام التراث واساطير البلاد لتعريف العالم بها من خلال استغلال المناسبات العالمية. سابعا: الحفاظ على طابع المدن وتاريخها وجمالياتها اذا دعت الضرورة لتصميم منشئات جديدة وربط الجديد بالقديم بطريقة متناسقة بحيث لاتبدو العشوآئيات سمة للمعمار العمراني . ثامنا : ان وسائل الاعلام هي للمعرفة والثقافة وعكس مصالح الرأي العام بقدر ماهي للترفيه والاعلام والفن والاخبار. تاسعا: ان الفساد يمكن ان يوجد في كل حقل وفي كل بلد ولكن القانون والضمير والاخلاق والعقل تدين كلها هذا الفساد وتكشفه وتعاقب عليه حتى لايتكرر ويتسع فلماذا ضاع القانون في العراق ولماذا ضاعت الاخلاق ولماذا ضاع الضمير؟ واذا ضاعت هذه كلها ضاع العقل. عاشرا واخيرا: ان الثقافة هي التي تقود الديمقراطية وتقود العالم المعاصر وتقود التطور. فثقافة البلد تنعكس على ثقافة المسؤول وهذا يطورها بدوره ، فاين ثقافة العراق اولا واين ثقافة المسؤولين فيه ثانيا؟ وبمناسبة العقل فان فلاسفة المسلمين قالوا ان ( العقل قد يطلق ويراد به العلم بحقائق الامور) هذا قاله ابو حامد الغزالي في الاحياء. ولكن من كان له عقل لايصدق ماتقوله الحكومات لانها تخفي حقائق الامور. وقال الماوردي في اعلام النبوة ( قيل ان العقل المراد به التمييز بين الحق والباطل) وقد قل عدد العقلاء لدينا لان الباطل غلب الحق ولم يعد احد يميز بينهما. والعقل عند الفارابي في كتابه (السياسة المدنية) نور فهو يقول( ومنزلة العقل الفعال من الانسان منزلة الشمس من البصر) وتعريف ابن باجة في رسائله الفلسفية تعريف يدين الواقع الوهمي والخرافي الذي نعيش فيه نحن العراقيين فهو يعرفه هكذا( ان العقل يأخذ من القوة المتخيلة معلومات هي المعقولات) وانا اتساءل هل بقي لدينا عقل ؟ وهل نعيش معقولات ام خرافيات؟ اترك الجواب لكم.