مما لا شك فيه ان لفظة العالمية تعني نسبة صفة او حالة او عمل الى عالم الانسان. فيقال مثلا، فكر عالمي وحضارة عالمية وتنظيم عالمي، كما يقال حرب عالمية وسلم عالمي الخ... غير اننا نسمع الى جانب مصطلح العالمي والعالمية، مصطلحا آخر هو مصطلح الدُولي والدولية، وهو مصطلح قريب من مصطلح العالمي والعالمية، لكنه لا يشمل كل حضارة العالم، وانما يخص التنظيم السياسي الدولي فقط.
المفهوم اللفظي للعالمية:
في اللغة الفرنسية القريبة في هذا المجال من اللغات الاوربية الأخرى، نجد مفردة mondial وتعني ما له صلة بالعالم Le monde، المنسوخة من مفردة ال Mundo اللاتينية. اما مفردة mondialisation فهي اسم يدل على اعطاء بعد او اهمية عالمية لأية حالة او حدث، كما تعني حالة من يكتسب او اكتسب اهمية او شهرة عالمية، كما جاء ذلك في احد القواميس. فما هي حقيقة العالمية يا ترى؟
حقيقة العالمية:
على الرغم من ان العالمية مفهوم جامع لأبعاد كثيرة متماثلة تتبع قواعد مشتركة واحدة، الا اننا سنحصر كلامنا بالمفهوم الحضاري للعالمية، كي لا نشتت القارئ بأمور كثيرة. وفي الحقيقة سرني جدا ان اجد على صفحة" كتاب عراقيون من اجل الحرية "، عنوانا يعود للأخ احمد ابو رتيمة يقول بأن الحياة ديناميكا وليست استاتيكا. غير اني اود ان اقول للقارئ الكريم بأن ما كتبه الأخ المذكور قد تحول عندي، منذ زمن بعيد أساسا لمنهجية لاهوتية مكتوبة تؤمن بصيرورة وسيرورة العالم التدريجية من الفها الى يائها، الأمر الذي يعني بأن العالم ليس ديناميكيا متحركا حسب، لكنه عالم يسعى الى هدف" ذاتي " مرسوم في طبيعته، لا يقبل العشوائيـة، سواء كان هذا العالـم هو الكون الكبير Macro cosmos، او كان هو الكون الصغير micro cosmos، كناية عن عالم الانسان، او عن الانسان نفسه، في حين اعتقد ان العالم البنيوي المجهري micro structure لا يختلف كثيرا في ديناميكيته عن العالمين المذكورين. غير اننا سوف نحصر كلامنا، في هذا المقال، بعالمنا الحضاري وبطبيعته وببعض قواعد حركته، من اجل مقارنتها، في مقال قادم، بواقع آخر يسمى العولمة، وباللغات الاوربية يسمى globalisation.
طبيعة عالمنا الانساني:
في اعلاه شددنا على الطبيعة المتحركة لعالمنا، حتى يمكننا ان نقول مع الفيلسوف اليوناني القديم هيروقليطس، بأن الانسان لا يسبح في عين ماء النهر مرتين، مع ان النهر يبقى هو هو لا يتغير. اما التاريخ فيقدم لنا عالما ثابتا في جوهره، متعددا في الصور التي يظهر بها، هذه الصور التي نجدها متماثلة هي الأخرى، بسبب ارتباطها ببنيتها الوجودية الواحدة. فمادة التاريخ، في الحقيقة واحدة وثابتة، وهي لا تفنى ولا تستحدث، لكن صورها متنوعة ومتعددة.
المادة في مختلف صورها:
وهنا ودون ان ندخل في تفاصيل طبيعة الكون او العالم البنيوية structurale، متعددة الأبعاد، Multidimensionnelle، فضلا عن طبيعته الجدلية المتحركة Dialectique فإننا سنؤكد بشكل خاص على حركة المادة في مختلف صورها المتعاقبة، كما نرى ذلك في فلسفة ارسطو ايضا، كي ما نستطيع ان نتتبع خطوات هذه المادة وهي تتحرك بحسب القواعد المذكورة متجهة صوب اكتمالها غير المحدد وغير المعروف الى يومنا هذا نسبيا. ولكن مما بدأنا نعرفه، هو ان العالم يسير نحو عالميته، اي نحو وحدته العالمية، ربما مع بقاء بعض الخصوصيات لكل مرحلة حضارية من المراحل. لذلك يكون من المهم ان نؤكد على حقيقة ان مسيرة العالم ليست مسيرة عشوائية، كما يظن البعض، ولا هي مسيرة تنهي التاريخ في نقطة معينة، دينية كانت ام حضارية.
قاعدة بنيوية فرعية:
ولكن، وبعد ان حددنا بإيجاز شديد طبيعة المسيرة الحضارية العالمية سنسلط انظارنا بشكل خاص على حالة من حالات البنيوية التي تتكلم عن البنى التحتية Infra structures وعن البنى الفوقية Supra structures. علما بأن هذه الظاهرة ظاهرة انثروبولوجية لا نجدها الا عند الانسان، ربما مع وجود ما يماثلها، وليس شبيها لها، في عالم المادة الخام وكذلك في عالم الأحياء، قبل مرحلة الانسنة، الأمر الذي يشير من الآن الى اننا امام عالم لم تظهر" طبيعة مكنوناته " الا على مراحل متباعدة، سواء على شكل خطوات وقفزات متتالية، او حسب سيرورة مستمرة لا تنقطع ابدا، بحسب قواعد لسنا بصددها الآن، مما يفهمنا ايضا ان العالمية تعني فيمـا تعنيه بروز مكنونات العالم المادي وتحققهـا التدريجي في اي مكان، بعد اكتمال شروط هذا التحقق، ومنها قدرة هذه الامكانات على العبور من حالة امكانات كامنة En puissance الى حالة قدرات متحققة بالفعل. En acte، بحسب تعبير الفلسفة الارسطية. اما الأب تيار ده شاردن Le père Teilhard de Chardin فيضع قاعدة عامة تبين تحقق امكانيات العالم بقوله، بما معناه: حيث يزداد الروح تنقص المادة، والعكس ايضا هو صحيح، مما يعني ان مسيرة الروح مسيرة تصاعدية وشبه حتمية نحو الروح، حتى وان اصابت هذه المسيرة انتكاسة احيانا، وقدرت القوة المادية ان تعطل مؤقتا هذه المسيرة، كما يحدث في العالم في هذه الأيام.
البنى التحتية والبنى الفوقية:
غير ان ما يمكن ان يحدث في حالة تغيير البنى التحتية هو ان البنى الفوقية لا تتغير دائما مع تغيير البنى التحتية بشكل حتمي. اما ما يفسر ظاهرة عدم المواكبة هذه، على مستوى البنى الفوقية، فيعود الى طبيعة البنى الفوقية نفسها والى قدراتها الخاصة والى شفافيتها، والى نقائها ودرجة تخلصها من شوائب مادتها وترسباتها. وهكذا اذا افترضنا ان قانون الأب تيار ده شاردان لم يستطع ان يقول لنا ما هو محرك الروح الذي يدفعه الى التصاعد على حساب المادة، فان قانون الجدل قد يرينا اسباب حركة العالم، بصورة اوضح. ولكن ربما هناك تفسيرات اخرى انثروبولوجية تستطيع ان تكشف لنا بشكل أوضح سر تحرك الانسان نحو العالمية، كما سنرى ادناه.
الحاجة الأنثروبولوجية مفتاح التفسير:
اذا كانت الحاجة ام الاختراع، كما يقول المثل العربي، فان الحاجة الأنثروبولوجيـة، كما يقول بها العالم النفسي ماسلو، او يقول بها غيره، قد تكون فعلا المحرك الأساسي لانبثاق الروح ولتحرك الانسان نحو اهدافه الانسانية التي يحتاجها. مع اننا نعرف ان الانسان لا يحصل على حاجته بشكل اجباري محدد déterminé لكنه يحصل على هذه الحاجة وفق قوانين متعددة تعود الى الانسان نفسه، كما تعود الى طبيعة الحاجة المطلوبة، وفي اغلب الأحيان تعود الى قانون، لا نسميه قانون الصدفة، وان كان فيه كثير من الصدفة، لكننا نسميه قانون الاحتمالات. Loi de probabilités. اما قوانين تحرك المادة فلها تنوعها وخصوصيتها التي لا نستطيع الكلام عنها في هذا المقال. اما قانون الحرية البشرية، كقدرة انثروبولوجية، فهو الآخر يحتاج دراسة خاصة لا مجال لنا لعملها هنا.
العالمية هدف انثروبولوجي مستمر:
فالإنسان يتطلع الى ان ينمو نموا طبيعيا سلسا، لكن معوقات كثيرة ممكن ان تمنع هذا النمو، فيشعر الانسان بالاستلاب والضياع، كما انه يسعى بقدر او بآخر الى ان يستعيد حريته المقيدة، كما كانت الأحذية الفولاذية تعيق نمو القدم، في الصين القديمة. غير ان الطبيعة في نهاية المطاف تصل الى غاياتها الأساسية، ولا تهمها كثيرا التضحيات الكثيرة التي يعطيها البشر على طريق التقدم الجدلي، او عن طريق ظهور الروح بشكل اقوى وأجلى.
طبيعة مسيرة الانسان نحو العالمية: لقد تكلمنا عن طبيعة الروح الصاعدة وعن قوانينها، كما تكلمنا عن طبيعة الجدل المبنية على نوع من الصراع بين القديم والجديد وعلى التضحيات التي يتطلبها هذا الصراع، سواء كان صراعا جدليا حقيقيا ام كان صراعا مصطنعا. ولكن يبقى ان نفهم شكل هذه المسيرة البنيوية الجدلية التي تسير بالإنسان نحو عالميته، هذه العالمية التي قد توقفها وتعيق حدوثها، مضادات دينية او طبقية او اجتماعية، كما يمكن ان توقفها تحالفات اقوياء العالم، فـي سبيل عرقلة وصول المجتمعـات الى اكتمالها الانساني بحرية.
تفاوت الشعوب في الوصول الى العالمية:
نعم هناك تفاوت في وصول الشعوب الى العالمية. اما هذا التفاوت فيعود الى اسباب كثيرة، منها طبيعة الشعب نفسه وطبيعة بيئته، ومنها المعوقات والعراقيل التي يضعها الأعداء في طريق تقدمه، ومنها قربه او بعده الجغرافي والنفسي والثقافي من الشعوب المتقدمة، ومنها الفترة الزمنية التي بدأ منها هذا الشعب مسيرته الحضارية، ومنها المحفزات المادية وغيرها التي تساعد الشعوب على التقدم. مع تأكيدنا على ظاهرة أخرى، وهي ان شعبا لا يستطيع ان يتقدم، وان ببطء، فانه سيتأخر ويتلاشى حتما. اما الملاحظة الأخرى التي نرى ضرورة تقديمها فهي ان مسيرة تقدم الشعوب تأتي بخطوط شبه متوازية تقترب من بعضها كثيرا او قليلا في نهاية الشوط. هذا اذا كانت هناك نهاية منظورة لمسيرة العالم العالمية.
الخصوصية والفرادة:
اما الكلام اعلاه فيعني فيما يعنيه ان العالمية تعني تقارب الشعوب الحضاري، وقد تعني التقابس، غير انها لا تعني اندماجا كليا للحضارات مع بعضها، ولا يعني الالتقاء في نقطة واحدة تشكل رأس الهرم وقمته، لأن هذا الالتقاء يعني القضاء الكلـي علـى الخصوصية، وهو أمر لا يمكن ان يحدث، لا في المستقبل القريب ولا في المستقبل البعيد. غير انه يمكن ان يعني بأن جميع الشعوب، او على الأقل المؤهلة منها، يمكنها ان تصل الى عالميتها بقوة وبكمال مرضٍ، دون ان تفقد خصوصيتها.
العالمية والحرية:
من المؤكد ان المصطلح الذي نحتاجه عند كلامنا عن العالمية ليس هو مصطلح الديمقراطية، لكنه مصطلح آخر شبيه به، وهو مصطلح الحرية. اما الحرية هنا فليست الفوضى التي تسمح لكل انسان بأن يفعل ما يشاء، لكنها تعرف بأنها امكانية ان يسير الانسان في سبيل تطوره الفردي والاجتماعي من دون عائق ذاتي داخلي او عائق خارجي. ولعل مثل الحذاء الحديدي الذي كان الصينيون القدماء يلبسونه لأطفالهم في عمر معين، لكي لا تكبر ارجلهم اكثر مما يجب، حسب تصورهم، يفيدنا في فهم معنى الحرية والحرية المكبوتة والمستلبة. لذلك نقول ان كل ما يمنع تقدم الانسان الفكري والحضاري والإنساني يناقض الحرية ويستلبها، باستثناء عمل الشر الذي يدخل تحت بند آخر، حيث لا يحرر الشر اصحابه بل يكبلهم بسلاسل الشهوات غير المرتبة، ومنها شهوة استلام الحكم السياسي بأي ثمن، ولاسيما اذا جاء هذا الحكم عن طريق الميكيافلية التي تعني ان الغاية تبرر الوسيلة.
موقفنا من العالمية:
فالعالمية اذن، وبناء على ما تقدم، لن تكون في يوم من الأيام، امرا يجب الحذر منه، طالما ان العالمية هي الحرية، بمعناها الايجابي العميق، وهو ال" ديمقراطية " بمعناها الموسع المماثل للحرية. غير اننا علينا ان نفهم ايضا ان الحرية والديمقراطية والدخول في العالمية، ليست مكاسب مقفلة نمتلكها، لكنها دعوة مستمرة موجهة الى كل انسان والى كل شعب ليسعى باتجاهها، بصفتها اهدافا مثالية عليا، نؤمن بها اولا ونتمناها ( نرجو الحصول عليها ) ونحبها، ونسير في سبيلها وباتجاهها على الرغم من الصعوبات التي تواجهنا في هذا السبيل. انها حقا الباب الضيق الذي يدعونا السيد المسيح، وتدعونا انسانيتنا، ان ندخل منه، وهي السبيل الموحش الذي يجب ان لا نخشى السير فيه، حسب مقولة الامام علي بن ابي طالب، رضي الله عنه.
رواد العالمية:
ويقينا، سوف يجد كل انسان روادا سبقوه في طريق العالمية، من داخل بيئته الخاصة ام من خارجها، كما سيجد من بين هؤلاء الرواد من يملك موهبة فرز العالمية الحقيقية من اشباهها، وكذلك موهبة التمييز بين الحركات التاريخية الأصيلة وبين الحركات الغوغائية التي يراد فرضها باسم العالمية، وأحيانا باسم الله، على الناس. وهنا يهمني ان اقول لقرائي الأعزاء بأن وظيفة جميع انبيائنا الكبار كانت تكمن في معرفة مشيئة الله الحقيقية، في صميم حياتنا البشرية، وهي تتوجه نحو عالميتها، وفي اعلانها للناس صافية خالية من اي تشويه. اما رواد العالمية الآخرون، ولنسمهم بالأنبياء الصغار، مثل الفلاسفة والمصلحين الاجتماعيين واللاهوتيين المبدعين والمواكبين لحركة تطور الحياة الانسانية، ومنها حياتهم الايمانية، والعلماء الكبار الذين عرفوا الناس بالحقائق العلمية التي تبعدهم عن المعتقدات الغيبية، والذين درسوا دراسة علمية حقيقة الانسان من جميع اوجهها، فإننا يمكننا عدهم منارات في خدمة اخوتهم، يساعدونهم في طريق العالمية، هذا الطريق الذي هو السبيل الوحيد لتقدم الانسان من حالة قديمة الى حالة جديدة يتمناها.
العالمية وتقارب الشعوب:
في نهاية هذا المقال، والذي سيتبعه مقال آخر مكملا له لا يسعنا سوى ان نؤكد على ان العالمية، وليس العولمة، تقرب الشعوب من بعضها، دون ان يخسر اي شعب شيئا جراء مسيرته العالمية، في حين ان العولمة وكما سنرى في مقال قادم تبعد الشعوب عن بعضها، وتعادي بعضها بعضا.