الدولة : الجنس : عدد المساهمات : 88تاريخ التسجيل : 13/01/2010الابراج :
موضوع: قداس الحيرة السبت 3 نوفمبر 2012 - 4:57
قداس الحيرة
03/11/2012 ياسين العطواني
لا أدري لماذا شعرت بتلك الغبطة وأنا أشاهد هذا الجمع الخير من الرهبان والكرادلة يتقدمهم السفير البابوي في العراق، وهم يحيون قداسا ً للمرة الأولى في مدينة الحيرة التاريخية منذ 1500 عام . ولعل سبب هذه الغبطة ربما لإطلاعي البسيط على تاريخ وإرث هذا المكون العراقي الأصيل، وما قدمه لهذه البلاد من منجزات حضارية، وخدمات جليلة عبر التاريخ، وأيضا ً لما عاناه ومايعانيه اليوم من مصاعب شتى، بسبب هذه الغيوم السوداء القادمة من خلف الحدود، والتي تريد ان تعكر سماء العراق، لماذا إختار هذا الجمع المؤمن إقامة الصلوات في الحيرة؟ والجواب هو إن هذه المدينة تمثل العاصمة الروحية للمسيحيين، ومقصداً للرهبان طوال أكثر من 500 سنة قبل دخول الإسلام إلى البلاد، وهذا ما تأكده العشرات من الأديرة والكنائس المكتشفة وغير المكتشفة بين النجف والكوفة. وأما سكانها فهم من العراقيين الأوائل الذين كانوا قد اعتنقوا المسيحية . والملاحظ ان هذه المدينة ظلت مركزا ً للتعايش السلمي منذ تأسيسها وحتى بعد ظهور الاسلام، وهناك الكثير من الشواهد التاريخية التي تؤكد ذلك، حيث كان يسود مجتمع الحيرة نوع من التسامح الديني، بحيث كان هناك الكثير من الطوائف الدينية بجانب الغالبية المسيحية. وحتى بعد انتشار الاسلام بقيت الكنائس تمارس طقوسها، ويروى في هذا الشأن ان الامام علي (ع) أثناء خلافته في الكوفة مرَّ بأحد الأديرة، وكان الناقوس يدق فسأل الذين كانوا معه، ماذا يحكي هذا الناقوس ؟ فقيل له ياأمير المؤمنين وهل يتكلم قال الامام (ع) نعم يتكلم وبدأ يفسر نغمات ودقات الناقوس، مؤكداً ان فيها نوعاً من العبادة والتوحيد لله سبحانه، وعندما جُرح الإمام علي في 19 رمضان جيء له بطبيب مسيحي من منطقة عين التمر . ان هذه الشواهد التاريخية الحية وغيرها تؤكد أهمية هذه المدينة، وعموم مدينة النجف ودورها التاريخي، والتي تمثل رسالة حية يمكن ان تساهم في حوار الحضارات والأديان. ما نود التأكيد عليه هو ان مبدأ التعايش السلمي كان متأصلاً في هذه البلاد، وان سبب وجود هذا الارث الحضاري لبلاد مابين النهرين هو بسبب مساهمة ومشاركة جميع مكونات الشعب العراقي في بناء هذا الأرث . وكان للمسيحيين العراقيين القدح المعلى في بناء الصرح الحضاري لوادي الرافدين، ويكفي ان نشير هنا الى دورهم في نقل التراث الاغريقي الى العربية من خلال حركة الترجمة، وخاصة ً أيام الدولة العباسية، والتي أدت الى ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، وهكذا كان للتنوع الروحي والثقافي والمعرفي الأثر الكبير في اثراء الحضارة العراقية، وجعلها بهذه الصفة من التميز والتفرد، وهذا التنوع أيضا هو الذي ساهم في وضع اللبنات الأولى في صرح الحضارة الانسانية التي ظهرت في بلاد الرافدين، لذا يجب ان يشعر هذا المـُكون الذي نشأ وترعرع على ضفاف دجلة والفرات بان له مساهمة واضحة في هذا البـُنيان الحضاري . وهنا يجب التأكيد بأننا لا نريد ان نجتر الماضي ونتغنى به، فقد يصبح هذا الماضي عبئاً ً على كاهل الآخرين كما يحدث اليوم لدى الكثيرين، ولكن يجب ان نستفيد من هذا الماضي بالقدر الذي يجنبنا عثرات الحاضر ويمهد لنا خطوات المستقبل . وما أحوجنا اليوم الى التذكير بذلك التلاقح الحضاري الذي كان يجمع أوصال هذه البلاد بتلك الآصرة الوطنية . واذا أريد لهذا النسيج ان يستمر بهذه اللُحمة فليس أمام مكوناته إلا التمسك بتلك الثوابت الحضارية المتوارثة التي حافظت على هذه اللــُحمة، وقد تمثلت باحترام هذه التعددية وعدم التقاطع معها تحت اي مبرر او ذريعة من قبل كل المكونات المجتمعية، وهذا بطبيعة الحال لن يتم الا بعد ان تسود لغة التسامح واحترام حرية المعتقد مهما كانت.