" مملكتي ليست من هذا العالم " وليس " مملكتي ليست في هذا العالم " كان جواب المسيح لبيلاطس عندما استجوبه قبل تسليمه للصلب . انكر المسيح أن تكون مملكته " من " هذا العالم، أي على صورة هذا العالم ، على صورة ممالك هذا العالم . لكن غياب حرف الجرّ " في" وحلول حرف " من " مكانه في الآية يعني في ما يمكن ان يعنيه ان مملكة المسيح يمكن ان تتحقق، بالمعنى المكاني والجغرافي ، في هذا العالم . لم ييأس المسيح ، على الرغم من واقعيته ، من قدرة الانسان على بلوغ الكمال . لم يرد ان يغلق الباب كليا امام هذا الانسان ، بل اراد له ان يحاول اقامة مملكة تكون على مستوى الانجيل . فشلت " الدولة المسيحية "، على انواعها وهوياتها المختلفة، منذ تأسيسها على عهد قسطنطين الكبير الى يومنا الحاضر. فشلت هذه الدولة لانها كانت " من هذا العالم " ، ولم تستطع ان تكون مختلفة عما هو سائد في الامم . بل ربما قدمت الممالك المسيحية النموذج الاكثر قبحا بين الدول عبر ممارساتها الوحشية وارتكابها الفظائع . المسيح ادرك ذلك قبل حدوثه . ادرك ان الدول لا تقوم على النيات الصادقة ، ولا على البر والتقوى ، ولا على التعاليم السامية . دولة في هذا العالم تعني دولة من هذا العالم . لم يكن لديه ادنى شك بأن المسيحيين حين يستلمون السلطة سيكونون ككل بشر يستلم سلطة . سوف يستكبرون، يستعلون ، يحتقرون المستضعفين . منطق الدولة هو غير منطق الانجيل . الانجيل يقول بالمسامحة والغفران والمحبة ، الدولة تقول بالقصاص والحساب والقانون ... ادرك المسيح ذلك حين احتقر السلطة وسخر منها . ففي يوم تتويجه ملكا يوم دخوله الى أورشليم ، وعلى غير عادة الملوك قديما وحديثا، ركب جحشا . ركب جحشاً بعد ان هرب ، في وقت سابق ، من الحشود التي ارادت اقامته ملكا . وتلاميذه الاقربون هم ايضا كالحشود تلك لم يفهموا منطق المسيح ، اذ سألوه من منهم سيجلس عن يمينه ومن عن يساره في مجده ، وكادوا ان يختلفوا على هذه المسألة . كانوا يسألون لانفسهم سلطة لم ينالوها منه . ادرك المسيح ذلك ، ومع ذلك دعا المسيحيين الى التزام شؤون الدنيا والناس، والدفاع عن القيم والفضائل، والصدع بالحق . فالمسيحية ، على عكس ما يتصور البعض ، ديانة لا تعنى بالامور الروحية وحسب، بل تسعى الى عالم افضل يسوده السلام والعادل والمحبة والرحمة . وهذا يتطلب جهادا ضد الشر والخطيئة . وان كانت الخبرة التاريخية محبطة من حيث عدم القدرة على انشاء هذه المملكة المثالية الموعودة، الا ان تحقيقها غير مستحيل ، ولو كان عسيرا. ولكن الصراع ضد الشر، ورفع كرامة الانسان لا يمكن حصرهما بالمسيحية . وكل الاديان لها رؤيتها الخاصة بالنسبة الى تنظيم المجتمع والدولة . ونعتقد ان لا مشكلة في الدولة الدينية لو كان الله نفسه هو الحاكم ، ولكن المشكلة مع الدولة الدينية تكمن في ان افرادا او مؤسسة ما يحكمون باسم الله . وما أدرانا ان الله يحكم بحسب هذا الهوى ؟ وقد قال احد مؤرخي الكنيسة الفرنسيين ان الامبراطور المسيحي كان اشد قساوة في حكمه من الامبراطور الوثني ، لان الامبراطور الوثني كان يعتبر نفسه الها بين عدة آلهة ، بينما كان الامبراطور المسيحي يعتبر نفسه الممثل الوحيد للاله الوحيد على الارض . لذلك نرى ان كل من يسعى الى خير الانسان وسعادته في هذه الدنيا ، عبر العمل على بناء الدولة التي تكرم الانسان وتحترم حريته وترفع من شأنه ايا كان انتماء هذا الساعي وايا كانت صفة هذه الدولة، دينية ، لادينية، مدنية، علمانية ... انما هو الاقرب الى فكر المسيح . ليست التسمية هي التي تهمنا ، بل المضمون الذي ينسجم مع قيمة الكائن البشري الذي خلقه الله على صورته ومثاله وجعله خليفة له في الارض اليوم هي دعوة لنا ان نتامل ونسال انفسنا اين هي مملكتنا ؟؟ >> منقول >>