المتنيّـح الأب عبدالمسيح الحبشي : راهب معاصر متوحّد ، عاش في مغارة بالقرب من دير البراموس أكثر من أربعين سنة . مارس الحياة الإنجيلية بروح التواضع مع الصراحة والقوة في الحق . صادق الوحوش وتحدّى الطبيعة ، ورفع قلوب الكثيرين إلى السماء ، وبالحق مارس الحياة الملائكية العجيبة ! الفترة القصيرة التي عاشها في القاهرة ثم في الإسكندرية قبل سفره إلى لبنان ومنها إلى أورشليم تحمل ذكريات في قلوب الكثيرين ، وكلماته لازالت ترن في أعماقهم !
نشأته : وُلد في أوائل القرن العشرين من أبوين تقيين لأسرة غنية جدًا ، بإقليم وللو Wollo في شمال أثيوبيا، وهو ينتسب للأسرة الإمبراطورية السابقة . تلقّى تعليمه الأوّلي علي أفضل المعلّمين في بلده ، وكان موضع تقدير أساتذته ، فكان متقدمًا في المعرفة والحكمة مع حياة فاضلة وغيرة في العبادة .
رهبنته : إذ أُختير لنوال مركزٍ مرموق انطلق إلى أحد الأديرة بجبال أثيوبيا ، وصار راهبًا باسم " الراهب عبد المسيح " .
إلى دير البراموس : بعد حوالي عشرة سنوات قضاها في الدير، اشتاق أن يكمل حياته الرهبانية في صحراء مصر مقتديًا بآباء البرية المصريين الأوائل .
أراد أن يكون كسيده، فأصرّ أن يعبر من أثيوبيا إلى السودان ، ثم إلى النوبة ومنها إلى صعيد مصر مشيًا علي الأقدام . وقد قطع هذه المسافة في تسعة أشهر وعشرة أيام . لا نعرف عن هذه الرحلة شيئًا إلا أنها بلا شك كانت رحلة رجلٍ عابدٍ للرب ، يتغنى في طريقه بروح التوبة الممتزجة بالفرح ، كمن هو منطلق إلى الفردوس .
في أواخر 1935م بلغ إلى حدود مصر في الجنوب وقال أنه يريد أن يذهب إلى دير البراموس ، وإذ لم يكن يعرف العربية لم يفهموا عبارة " براموس " ، فظنوا أنه يريد " برّا مصر" أي خارج مصر . حاولوا أن يفهموه ، وأخيرًا التجأوا إلى السفارة الأثيوبية فتحدث بالأمهرية وذهب إلى دير البراموس .
شعر رئيس الدير ( الروبيتة ) بقدسية حياته وجدّية رهبنته، وإذا تقدم شخص للالتحاق بالدير سلّمه له لكي يتلمذه . لاحظ رئيس الدير أن طالب الرهبنة قام في الصباح الباكر وبدأ يملأ ماءً من البئر لرش فناء الدير وكاد أن يقضي اليوم كله هكذا . وتكرر هذا الموقف إلى أيام كثيرة . عندئذ سأل رئيس الدير أبانا عبد المسيح : لماذا لم تعلم طالب العماد حفظ المزامير والتسبحة الخ .... ؟ أجابه : " يجب أن يتعلّم أولاً الطاعة والتواضع ، لو أنه حفظ الكثير لظنّ في نفسه أنه قديس ، وسقط في الكبرياء ! "
حياة الوحدة : لم يطق أبونا عبد المسيح أسوار الدير، فخرج إلى الصحراء وأقام متوحدًا في مغارة . كثيرًا ما كان يجول الصحراء مصلّيًا ومسبّحًا اللَّه ، ولا يلتزم بالعودة إلى المغارة ليبيت . كان متى أراد أن ينام يصنع بإصبعه علامة الصليب علي الرمال من الأربعة جوانب وينام مطمئنًا ، وكان في الصباح يجد آثار الحيّات وحيوانات البرية خارج الدائرة التي حوّطها بأربعة صلبان . أما إذا نام في قلايته ، فكان باب القلاية عبارة عن جريدتين من النخيل علي شكل صليب يضعه علي الباب ويدخل لينام كما عند صليب رب المجد . لم يترك مغارته منذ 1935م حتى عام 1958م ، عندما ذهب بغير إرادته بسبب شدة مرضه للعلاج بالإسكندرية ثم عاد بعد فترة قصيرة .
نور في المغارة : أثناء الحرب العالمية لاحظ الجند الإنجليز أن نورًا مشرقًا نحوهم فانطلقوا إلى حيث النور، إذ ظنّوا كمينًا قد أُقيم ضدهم . كانت المفاجأة أنهم وجدوا هذا الراهب. فتّشوا قلايته فلم يجدوا أثرًا لأي كبريت أو نور . كرّروا الأمر عدة مرات ، فكانوا كلما ابتعدوا حوالي كيلومترًا واحدًا يروا النور مشرقًا بقوة ، وإذ يعودوا لا يجدوا شيئًا .
أحبّوه وكانوا يطلبون صلواته ، وعندما تركوا الموضع قدّموا معلبات كثيرة جدًا قام بتوزيعها علي سكان البرية من العرب .
اتركوه يصلي من أجلنا ! : في سنة 1967م توجّه إلى قداسة الپاپبا كيرلس ، وطلب منه أن يمنع الزيارات عنه حتى لا تشغله عن وحدته وحياة التأمل . قال للپاپا : " الزوار جايين يتفرجوا علي حمار!! " . تطلّع الپاپا إلى الأنبا ثاوفيلس أسقف دير السريان وقال له : " اتركوه يصلّي من أجلنا ، لعل اللَّه يرفع غضبه عن العالم كلّه بصلواته " .
العمل اليدوي : كان يؤمن بأنه " إن كان أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل " ( 2تس1:3 ) . فكان يصنع الحبال من ليف النخيل ويسلّمها إلى بعض البدو الذين يقدمون له بعض الأشياء ، ويقوم هو بتوزيعها علي من يطلبها منه .
يسوع المسيح هو طبيبه ! : إذ كان مريضًا نصحه أحد الأطباء أن يأكل أطعمة ذات قيمة غذائية عالية ، وقام الطبيب بتقديم بعض الأطعمة له . أما فهو فعاد وقدّمها لمرافقي الطبيب وهو يقول له : " المسيح يسوع هو طعامي ، المسيح يسوع هو طبيبي ، المسيح يسوع هو قوّتي " .
مع الحيّات والوحوش المفترسة : في ديسمبر 1962م روي لي القمص متياس السرياني ( حاليًا نيافة الأنبا دوماديوس ) القصتين التاليتين :
الأولي ذهب لزيارته أحد الآباء المتوحدين المشهورين وإذ كانا يتحدثان معًا داخل مغارته دخلت حيّة ضخمة ، فبدأت عينا المتوحد تتوجه إلى الحيّة . أما هو فقال له : " يا أبتِ أتخاف من الحيّة ؟ ألم يقل : " أُعطيتكم سلطانًا أن تدوسوا علي الحيّات والعقارب ؟ " ثم طلب منها أن تترك المغارة فخرجت .
أما القصة الثانية فحدثت معه شخصيًا ، فكما يعرف عنه أنه كثيرًا ما كان لا يأكل إلا الردّة المبلولة " . زاره أبونا متياس السرياني فأراد أن يكرّمه جدًا فأتي بعلبة من فوارغ المعلّبات ووضع تحتها بعض الحطب الرفيع وأوقده ، ثم وضع في الماء " ملوخية " جافة ، ووضع عليها علبة " حلاوة طحنية " وبدأ يحركها بعصا صغيرة . بعد أن غلي الطعام قدّمه لأبينا متياس كأشهي وجبة طعام يمكن أن تقدم !
التقينا معه وتحدّث معه صديقي مكرم يوسف المحامي قائلاً له : " أريد أن أتتلمذ علي يديك هنا في الصحراء " ، أجابه أنت تريد أن تقفز لتصعد علي الدرجة العاشرة فتسقط وتنكسر ، لا بد أن تبدأ السلم بالدرجة الأولي فالثانية الخ .
من يلبس ذهبًا لا يري يسوع : في بيروت إذ زاره عدد كبير من الأساقفة ورؤساء الكنائس ، وكانوا يرتدون ثيابًا فاخرة وسلاسل ذهبية علي صدورهم . أمسك بطرف ثوب أحدهم وقال : " واحد يلبس ذهبًا ... لا يري المسيح ؛ واحد يلبس حريرًا لا يري المسيح " .
في أوائل الستينات زاره الأنبا ثاوفيلس مطران هرر بأثيوبيا ، ومعه سفير أثيوبيا بمصر . قال للمطران : " أمّ تترك بنتها لا تعيش ! " ويقصد التزام أثيوبيا بالارتباط بالكنيسة القبطية ، كما أمسك بالسلسلة الذهبية وقال لهم : " لا يصح ذلك ! "
في نهاية الزيارة قدّما له قطعة قماش سوداء فرفضها ، وإذ تركاها له ، ألقي بها في الدير بعد أن ودّعهما خارج أسوار دير البراموس .
ده مَلَكان ! ( هذا ملِك ! ) : اشتهر أبونا عبد المسيح بالنسك ، فكان يودّ أن يكون كل الرهبان والأساقفة متنسّكين . فمن الأمور المعروفة عنه توبيخه للأساقفة غير المتنسّكين .
ذهب يومًا إلى دير البراموس وطلب أن يُرسلوا إليه عند حضور الأسقف ، فقال له ( الروبيتة ) : لا يمكن لأنك دائمًا توبّخ الأساقفة قائلاً : " أنت مكسور " . فوعده ألا يفعل ذلك .
حضر الأسقف ولم يرسلوا إليه ، وإذ سمع رنّات الجرس أدرك أن الأسقف قد حضر فأسرع إلى الدير وطلب مقابلته . بدءوا يذكّرونه بوعده. ثم دخل إلى الحجرة فوجده جالسًا علي ( المصطبة ) وعليها سجادة فلم يحتمل المنظر ، فوضع يده علي عينيه لكي لا يري المنظر وبدأ يسير إلى الوراء بظهره وهو يقول : " ده مَلَكان ! ده ملكان ! مش قادر! مش قادر ! " وترك المكان وعاد إلى مغارته .
كنت في زيارة إلى دير السريان وقيل لي أن أبانا عبد المسيح الأثيوبي بالدير . فالتقيت معه، وإذ بالمتنيح الأسقف ... جاء وطلب منه أن يصلي من أجله لأنه مريض . وإذا بنا نُفاجأ به يقفز ويمسك ثوبه ويقول : " ثوب حرير مش للأسقف بل لكذا ..." وكان يوبّخه علي ثوبه الحريري . ثم قال له : " أحضر الكتاب المقدس " . وإذ أحضر أحد الرهبان الكتاب المقدس ، قدّمه للأسقف وقال له : " اقرأ مزمور 50 ( 49 ) ابتداء من الآية 16" . فقرأ الأسقف : "وللشرير قال اللَّه: مالك تُحدث بفرائضي وتحمل عهدي علي فمك ، وأنت قد أبغضت التأديب وألقيت كلامي خلفك ؟ ..." وصار يوبّخ الأسقف : " أتقول للسارق لا يسرق وأنت تسرق ؟ ..." حتى ارتعبنا جميعنا.
وإذ كان يستعد للسفر إلى القاهرة لمقابلة قداسة البابا كيرلس السادس طلب كوب شاي . وإذ رأى راهبًا قادمًا إليه بكوب الشاي قفز وجري بسرعة فائقة ونحن وراءه ثم قال له : " أنت لا تعرف أن تصنع الشاي" ، ثم طلب ماءً وبدأ يسكب في الكوب ماء وملحًا حتى انسكب أغلب الشاي علي التراب ثم شرب الشاي أشبه بماء به سكر وملح ، وهو يقول : " هذا هو الشاي الحسن ! "
انطلق نحو الرست هاوس ليركب الأتوبيس للقاهرة ، وكان لا يأخذ معه مالاً ، إذ كان السائقون يحبّونه ويشتهون أن يركب معهم . وإذ كان مستعدًا للقاء البابا وضع البطانية حول جسمه وأمسك بحذائه تحت إبطه . وكان يلتقي بالبابا لمدة دقيقة أو أكثر يقدم له رسالة ثم يتركه ويعود إلى الصحراء .
ذهابه إلى الإسكندرية : إذ التزم أن يذهب إلى الإسكندرية للعلاج بعد حوالي 23 عامًا ، صار يضرب مطانيات إلى الأرض ويقَّبل أرض المغارة حتى ركب السيارة وهو يقول : " راهب يترك المغارة ، عليه طقس يلتزم به " .
الاستعداد للرحيل : عاش أبونا عبد المسيح قرابة خمسين عامًا في الرهبنة ، قضي أغلبها كمتوحدٍ في مغارة بجوار دير البراموس . وإذ شعر بقرب رحيله من العالم أراد أن يموت بأورشليم ، وكانت العلاقات بين مصر وإسرائيل مقطوعة وعدائية . أصرّ أن يذهب إلى القدس علي قدميه ، فكان من المستحيل تحقيق ذلك لأسباب سياسية . أخيرًا اقتنع بأن يمكث في القاهرة لحين عمل جواز سفر أثيوبي له وأخذ تأشيرة دخول لبنان وسوريا ومن هناك يذهب إلى القدس . عاش قرابة سنة في حجرة تحت السلم بمبنى الكلية الإكليريكية ، ثم جاء إلى الإسكندرية للسفر من الميناء البحري. أذكر عندما جاء كان يسأل : " أين يوجد الحمار؟ " - ليسكن معه - قيل له : " لا توجد حمير بالبطريركية " . أخيرًا اقتنع أن يسكن تحت سلم البطريركية . كان إذا ما قال له أحد : " صلّ لأجلي لكي يرحمنا اللَّه " ، فكان يضربه علي ظهره وهو يقول : " ربنا بيرحمنا ، ونحن لا نرحم أنفسنا ! " قُدم له بلح فرفض تمامًا ، وطلب " البلح الذي يأكل منه الحمار" ، أي الذي لا يُؤكل !
إلى بيت المقدس : ذهب إلى بيروت حيث قضي حوالي شهرًا ثم توجّه إلى دمشق في ضيافة بطريركية السريان الأرثوذكس . هناك أخذ تصريحًا لدخول الأردن والعبور من جسر الملك إلى الأراضي المقدسة . عند وصوله مع مرافقيه إلى نقطة الحدود يبدو أن أحد المسئولين عن الأمن من المخابرات الأردنية تشكك في أمره ، فطلب تفتيشه ذاتيًا بمفرده ، فوجد في ملابسه بعض الكتب . مدّ يده في صدره فوجد كتابًا بالأمهرية ورقه قديم متآكل ، فألقاه علي الأرض بطريقة مثيرة . لم يحتمل أبونا أن يٌلقى بالكتاب المقدس علي الأرض فاستجمع قوته وبمنتهى الشدة صفع القائد علي وجهه حتى صرخ . استدعي القائد الراهب القبطي المرافق لأبينا ، وإذ عرف ما حدث صمت لأنه من حق القائد أن يقتلهما فورًا . لكن كم كانت الدهشة حين أصدر الضابط الكبير تعليماته الشفوية إلى رجاله بالموافقة الفورية علي دخول هذا الأب ومرافقيه إلى الأردن دون انتظار . بعد فترة قصيرة بأورشليم رحل أبونا المحبوب إلى الفردوس . * منقـــول *