ليس ثمة شك في أن الصهيونية ليست حركة عنصرية فحسب، ولكنها عنصريةوعدوانية معًا، فالصهيونية حركة سياسية نشأت في القرن التاسع عشر، وهي كما وصفهاهرتزل الأب الروحي لها: فكرة استعمارية مدينة بفكرها وقوتها وتحولها إلى حقيقة فيالشرق الأوسط إلى الامبريالية الغربية، والدولة الصهيونية ما هي إلا امتداد لهذهالامبريالية.
ولقد صدر حديثًا عن مؤسسة دار الهلال المصرية كتاب تحت عنوان "الصهيونية.. تاريخها وأعمالها" للكاتب جرجي زيدان، وقام بالتقديم له حلميالنمنم.
يتناول الكتاب الزيارة التي قام بها جرجي زيدان إلى فلسطين قبل 96عامًا من الآن، وزار خلالها معظم المدن الفلسطينية، وكان مهمومًا في رحلته بدراسةالوجود الصهيوني، فزار العديد من المستعمرات الصهيونية ورأى ما تقوم به على أرضفلسطين، ودرس الجمعيات الصهيونية في أوروبا التي تقوم بتمويل إنشاء تلك المستعمراتودعمها معنويًّا ومساندتها في الحصول على التصاريح والتراخيص اللازمة من الولاةوالجهات الإدارية في فلسطين.
ورأى زيدان فلسطين قبل الانتداب البريطاني،وتدخله الاستعماري الغليظ، ولاحظ أن هناك عملية تهويد حقيقية لفلسطين، ففي مدينةيافا كانت الشوارع والمحلات والأسواق تحمل أسماءً عبرية إلى جوار الأسماء العربية،وكان المهاجرون اليهود يضعون أسس الدولة، ولهم مدارسهم الخاصة ومواصلاتهم وكذلكلغتهم وثقافتهم، فحذَّر زيدان مما يراه، وقال: إن الحال لو استمر على ما هو عليه فيفلسطين، فخلال عشرات السنين لن يكون للعرب مكان فيها، ولم ينتبه أحد للتحذير فكانما كان.
قدم حلمي النمنم للكتاب بدراسة عن جرجي زيدان، أطلق عليها "جرجيزيدان: حياة من البحث والمعرفة".
وصف النمنم في دراسته جورجي زيدان بأنهحالة فريدة في الثقافة العربية المعاصرة، فقد علَّم نفسه بنفسه كالعقاد، ولم ينلتعليمًا نظاميًّا بالمعنى المعروف، ولكنه كان صحفيًا مميزًا أسس مجلة الهلال-هيالآن في عامها السابع عشر بعد المائة - وجعل منها مجلة ثقافية بالمعنى الواسعللكلمة، وتناول فيها معظم القضايا العامة والوطنية والسياسية، لكن من منظورفكري.
وإذا أراد القارئ التعرف على زيدان فكتاباته متوفرة، وللدكتور صالحالعشماوي بحث نشره منذ أكثر من خمس عشرة سنة تحت عنوان "وقفة مع جرجي زيدان"،وأيضًا تناول الكاتب أنور الجندي –يرحمه الله – أعمال زيدان بالنقد والتحليل، ولكنهذا لا يمنع من تناول أعماله بالتعريف.
تحت عنوان "زيارة إلى فلسطين"، تحدثالنمنم عن زيارة زيدان لفلسطين خلال زيارته إلى بيروت عام 1910 م، حيث سمع الكثيرعما يجري على أرض فلسطين، وبعدما عاد زيدان بدأ يكتب عن فلسطين كما بدأ النشر فيمجلة الهلال في أكتوبر عام 1913 م، وظل ينشر حتى وافته المنية في 23 يونيه 1914م.
ففي عدد أكتوبر 1913 من الهلال نشر دراسة عن الصهيونية بعنوان "الصهيونية.. تاريخها وأعمالها"، وأشار إلى انتشار تلك الفكرة وما يدور حولها حيثيقول: كثر تحدث الناس فيها الأعوام الأخيرة، وقد همنا أمرها على الخصوص أثناءرحلتنا في فلسطين.
ويذكر النمنم أن قارئ الفصول التي نشرها زيدان يلاحظالتالي:
أولاً: أنه حيث يتحدث عن فلسطين، يستعمل كلمة "بلادنا"، وقد كانشاميًّا لبنانيًّا، وكانت فلسطين حتى ذلك الوقت جزءًا من بلادالشام.
ثانيًا: أنه حرص على جمع أكبر قدر من المعلومات حول الجمعياتالصهيونية في فلسطين والمواقع التي تتركز فيها، وبتعبير آخر مناطق نفوذ كل منها، إذكانت تتوزع على عموم فلسطين، وما تقوم به من شراء للأراضي واستزراعها وتأسيسمجتمعات سكنية جديدة تمامًا، وتاريخ كل جمعية ودورها في فلسطين ومن يقف خلفها فيأوروبا.
ثالثًا: انتقد زيدان بشدة الحكومة العثمانية، فهي لم تقدم أية خدماتللأهالي في فلسطين، وتركتهم بلا تعليم وبلا رعاية، ثم بلا حماية، فلم تنتبه إلى مايجري من بيع للأراضي، واتهم المسئولين العثمانيين في فلسطين بأنهم يفضلون الأجنبي،أي اليهودي الصهيوني، على الوطني في بيع الأراضي وتقديم التسهيلات.
رابعًا: كتب آخرون قبل زيدان عما يحدث في فلسطين، ولكن الذين كتبوا فهموا الأمر على أنهمجرد هجرات يهودية كثيفة لفلسطين، وأن ذلك يضعف المواطنين الفلسطينيين ويهددالمجتمع، وكان الكتَّاب اليهود يردُّون بأنها مجرد هجرات لأناس مضطهدين، وأنهميعملون في إطار الدولة العليا، وأنهم من رعاياها، وبعضهم لمس على استحياء فكرة أنتكون فلسطين وطنًا لليهود.. لكن جرجي زيدان وحده من لاحظ ورصد أن اليهود هناكيؤسسون دولة داخل الدولة، أو ما أطلق عليه حكومة يهودية ضمن حكومة عثمانية، فقدلاحظ أن لهم مدارسهم الخاصة، ويتم تدريس كل شيء بالعبرية، وأن لهم قضاءهم الخاص،وكذلك الشرطة والبريد.
خامسًا: انتهى زيدان إلى النتيجة المأساوية التيتعيشها فلسطين اليوم، وهي العمل على تهويد كثير من الأماكن والمدن في فلسطين.. يقول: رأينا في يافا ـ أكثر مدائن فلسطين صبغة ـ يهوديةً ظاهرة في أسواقهاومنازلها، فتجد أسماء الصناعات أو المتاجر على الحوانيت أو المنازل باللغةالعبرانية، فضلاً عن العربية والإفرنجية. وهم يسمون غرف الفنادق بأسماء آبائهمالأولين أو مدنهم القديمة، فبدلاً من الاكتفاء بالنمرة للغرفة يسمونها بنيامينمثلاً أو يعقوب أو أريحة أو نحو ذلك، وينتهي من هذا الوصف والرصد إلى النتيجةالمرعبة، وهي أن تغلُّب اليهود في فلسطين ظاهر ظهورًا واضحًا، فهم أصحاب الثروةولهم أخصب المغارس وأنظف الشوارع وأفخم المنازل، والوطنيون يرون ذلك ويشتكون،والحكومة لا تحرك ساكنًا لانشغالها بنفسها أو بحروبها دون النظر في هذهالشئون.
سادسًا: قدم زيدان الكثير من الاقتراحات لإنقاذ فلسطين وأهلها. مثلمطالبته بالنسج على منوال أولئك المستعمرين من حيث تعمير الأرض بالطرق العلميةوإنقاذ الفلاح من المرابي بالطرق المعقولة. إما بإنشاء النقابات الزراعية أو نحوذلك.
سابعًا: لم يكن زيدان غافلاً عن سؤال المستقبل، مستقبل فلسطين تحديدًا،إذا ظل ازدياد معدلات الهجرة اليهودية والصهيونية إليها، وقد أطلق صيحة تحذيرواضحة، بقوله: ما لا شك فيه من مستقبل تلك البلاد أن الحال إذا ظلت على ذلك واليهودعاملون على استبياع الأرض واستعمارها، وأهلها غافلون أو متجاهلون وحكومتها ساكتة أومشغولة، فلا يمضي زمن طويل حتى تصير كلها لليهود.. ولا عبرة فيمن يتولى شئونهاالسياسية ولا فرق أن تكون يومئذ في سلطة العثمانيين أو العرب أو الفرنساويين أوالإنكليز.. فإن العبرة فيمن يملك الأرض ويستولي على غلتها وليس صاحب السيادةالسياسية إلا وسيلة لحفظ الأمن وتأييد الملك لصاحبه. سواء كان مسلمًا أو نصرانيًاأو يهوديًا. ومضت الأيام، ولم يستمع أحد إلى صيحة زيدان وتحذيره.
رحل زيدانفي يونيو عام 1914، قبل شهور من اندلاع الحرب العالمية الأولى التي لن تمر إلا وقدصدر وعد بلفور في نوفمبر 1917. ولم يفت زيدان وهو يكتب عن الصهيونية وما تقوم بهجمعياتها في فلسطين، أن يتحدث باستفاضة عن اليهود عمومًا ودورهم في التاريخ، وهويفرق بوضوح - كما فعل رشيد رضا - بين اليهود واليهودية من جانب والصهيونية من جانبآخر.
كما كتب زيدان عن فلسطين تاريخها وآثارها، مبينًا تاريخ فلسطين ومدنهاالعريقة ومكانتها الدينية في نفوس العرب والمسلمين، فيما أفرد دراسة عن مسجد قبةالصخرة، وأخرى للحديث عن المسجد الأقصى، كما تناول بالشرح والتحليل أحوال فلسطينالاجتماعية، وأجناس أهل فلسطين، فيما خصص زيدان دراسة لأديان أهل فلسطين، ثم تحدثعن اليهود والتاريخ، واليهود في الدول الإسلامية.
كان زيدان مختلفًا عن غيرهمن المفكرين العرب، فقد قدَّم معظمهم رأيه وطرح فكرته، ومع أنه فعل الشيء نفسه،لكنه زاد عليهم أنه كان شاهد عيان، لقد رأى بعينيه وعايش الأمر داخل فلسطين التيكانت جزءًا من منطقة بلاد الشام، ولم يكن الحكم في الشام مركزيًا، على غرار دولةمثل مصر، بل كان مجموعة من الولايات العثمانية أقرب إلى إقطاعيات، وكانت فلسطين فيالعصر العثماني تتكون غالبًا من ثلاث مناطق، القدس والقرى المحيطة بها.. ثم عكاومدن الساحل على البحر المتوسط، وهناك نابلس وأجوارها. ثم خطر للدولة العليا بعدمحاولة علي بك الكبير الاستقلال بمصر والشام ثم حملة بونابرت وحملات إبراهيم باشا،أن تعيد النظر في هذه التركيبة، لتحدَّ من نفوذ الولاةوالأمراء. ngk