ما هي حقيقة القبر المعروف بـ [قبر البنت]..؟ أهو لطفلة صغيرة هربت من أهلها وتخرج ليلا لترعب الناس.. أم لشابة موصلية ابتلعتها الأرض حفاظا على شرفها..؟!
2012-05-24 :: نقلا عن مصادر متعددة.. ::
كلنا نعرف القبر الواضح في الصورة والمعروف خطأ بـ(قبر البنت)، والموجود في باب سنجار في الساحل الأيمن من الموصل.. فقد تعددت الاقاويل والقصص عن هذا القبر، فمنهم من قال هو قبر لطفلة، ومنهم من قال هو قبر لشابه ظلمت في حياتها، ومنهم من قال هو قبر لأمراة ومنهم من قال هو نموذج قبر وليس بالقبر اي لايحوي شيء!
ومن القصص التي تتناقلها الجدات في الموصل، كما تروي لنا طالبة الدكتوراه زينب رامي العمري عن جدتها: [هذي بنت كانوا يلحقوها بالليل وانهزمت واختفت، ومرات تطلع وتفتر بالليل بالمنطقة قغيب من القبغ، وأكو ناس كن غشعوها وجنوا.. وكلمن يغشعا يصيغ عندو هبطة..]..!!
بينما يروي آخرون [قبل مئات السنين كانت مدينه الموصل محاطة بجدران تحميها من الدخلاء واللصوص، وكانت هناك فتاة اصيلة وشريفة تخرج يوميا خارج اسوار المدينه لترعى غنمها، وفي احد الايام حاصرتها مجموعة من قطاع الطرق واللصوص في محاوله منهم لاغتصابها، فأبت هذه البنت الاصيلة بأن يدنس شرفها ومعه شرف مدينتها، فأرتفع صوتها عاليا بالبكاء والدعاء من الله ان يحميها من ايدي اللصوص، فأنشقت الارض وابتلعت الفتاة.. وبائت محاولات الجميع بالفشل لاخراجها فماتت بمكانها واقيم لها مقام صغير هناك]..!
كل هذه الاقاويل هي من نسج الخيال ولا أساس لها من الصحة على الاطلاق.. فهذا هو قبر العالم المؤرخ العظيم (عز الدين أبي الحسن علي الجزري) الملقب بـ(ابن الاثير الجزري)، والذي عاصر دولة صلاح الدين الايوبي ولازمه في بعض غزواته. وهو صاحب كتاب (الكامل في التاريخ) وكتاب (الباهر في الدولة الأتابكية).
ولد إبن الأثير عام 555 هـ في جزيرة ابن عمر، وهي كانت مدينة عربية خالصة خرجت العديد من الفقهاء والعلماء والذين تسموا باسم (الجزري) نسبة الى (الجزيرة).. وهي الآن داخلة ضمن حدود الدولة التركية حالياً قربا من الحدود السورية. وقد عني أبوه بتعليمه، فحفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ثم رحل إلى الموصل بعد أن انتقلت إليها أسرته، فسمع الحديث من أبي الفضل عبد الله بن أحمد، وأبي الفرج يحيى الثقفي.. وكان ينتهز فرصة خروجه إلى الحج، فيعرج على بغداد ليسمع من شيوخها الكبار.
ثم رحل إلى دمشق وتعلم من شيوخها وعلمائها واستمع إلى كبار فقهاء الشام واستمر فترة من الزمن في رحلته الطويلة لطلب العلم وملاقاة الشيوخ والأخذ منهم. درس ابن الأثير الحديث والفقه والأصول والفرائض والمنطق والقراءات، غير أنه اختار فرعين من العلوم وتعمق في دراستهما وهما: الحديث والتاريخ، حتى أصبح إماما في حفظ الحديث ومعرفته وما يتعلق به، حافظا للتواريخ المتقدمة والمتأخرة، خبيرا بأنساب العرب وأيامهم وأخبارهم، عارفاً بالرجال وأنسابهم لا سيما الصحابة..!
ثم عاد إلى الموصل ولزم بيته منقطعا للتأليف والتصنيف، فقد توافرت لابن الأثير المادة التاريخية التي استعان بها في مصنفاته، بفضل صلته الوثيقة بحكام الموصل، وأسفاره العديدة في طلب العلم، وقيامه ببعض المهام السياسية الرسمية من قبل صاحب الموصل، ومصاحبته صلاح الدين في غزواته - وهو ما يسر له وصف المعارك كما شاهدها- ومدارسته الكتب وإفادته منها، ودأبه على القراءة والتحصيل.. ثم عكف على تلك المادة الهائلة التي تجمعت لديه يصيغها ويهذبها ويرتب أحداثها حتى انتظمت في أربعة مؤلفات، جعلت منه أبرز المؤرخين المسلمين بعد الطبري..!
وأهم هذه المؤلفات هي:
(1) - الكامل في التاريخ، وهو كتاب جامع لأخبار ملوك الشرق والغرب وما بينهما، وقد جاء هذا الكتاب في 9 مجلدات جاء الأول بعنوان [بدء الخلق]، الثاني: [السيرة 20 هجرية]، الثالث [21- 69 هجرية]، الرابع: [70- 144 هجرية]، الخامس [145 - 260 هجرية]، السادس: [261- 350 هجرية]، السابع: [351- 422 هجرية]، الثامن: [423- 535 هجرية]، التاسع: [536- 628 هجرية].
(2) - التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية، وهو في تأريخ حوداث و أخبار الدولة التى أسسها (عماد الدين زنكى) في الموصل.
(3) - أسد الغابة في معرفة الصحابة، وهو في تراجم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم.
(4) - اللباب في تهذيب الأنساب، وهو في الأنساب العربية.
توفي ابن الأثير الجزري عام 630هـ/1232م في الموصل ودفن في هذا القبر الواقع في باب سنجار الحالي، وهذا القبر شأنه شأن باقي معالم الموصل الاثرية، نال حظه من العبوات والمفخخات، إلا انه قرر ان يبقى شامخا بمساعدة الخيرين من ابناء الحدباء.
أما سبب تسمية القبر بـ(قبر البنت) فله قصة ترجع الى كاتبة بريطانية هي (مس دراور) والتي زارت مدينة الموصل عام 1922 م لغرض الكتابة عن المشاهد والمقامات، ووقفت في واحدة من جولاتها على قبر المؤرخ عز الدين بن الاثير حيث تجمهر الناس المتواجدون في المنطقة حولها، فأنتشر خبر زيارتها تلك ووجودها امام القبر الذي لفت انتباه الناس مما ادى الى اقتران صورة تلك الكاتبة دائما بمشهد القبر كلما مروا من امامه فغلبت تسمية "البنت مس دراور" على القبر، وسمي قبر البنت..!
وللملتقى كلمة..: لو كان قبر شخصية باهرة كهذه في إحدى دول الغرب لجعلوا منها معلما تاريخيا عظيما يؤمه أبناء تلك الدولة للتعرف على حضارتهم العريقة، بل ويؤمه السواح من كل بقاع اوروبا والعالم.. ففترة ابن الأثير هي زمن الانتصارات الاسلامية لصلاح الدين الأيوبي، وزمن التحام الموصل بالشام بمصر دفاعا عن بيت المقدس.. ويومها لم تكن أوروبا تعرف القراءة والكتابة، بل لم يكن يعرف قراءة وتفسير (الكتاب المقدس) الذي كان باللاتينية سوى قساوسة الكنائس ممن كانوا يحرمون التفكير والتأويل والاجتهاد، بل ويحرقون بالنار كل من خرج بتأويل يخالف ويتحدى السلطة الكنسية..! بينما كان مؤرخنا العظيم (إبن الأثير) يجوب بقاع العالم الاسلامي ليجمع المعلومات التاريخية بكل دقة وموضوعية ليتحفنا بكنوز تاريخية وتراثية لايعدلها ثمن..
أما آن الأوان أن تقوم الجهات المختصة في الموصل بتشييد (متحف المؤرخ العظيم إبن الأثير) في هذا الموقع بدلا من كونه مزارا للمغفلين وقبة قبر تنتشر حوله الخرق والنذور والأساطير البالية وقصص العواجيز.. ؟!
* ملاحظة: نود أن نسمع اقتراحات القراء والأساتذة الأفاضل حول ما يمكن فعله لاحياء مثل هذا التراث، و [ملتقى ابناء الموصل] على استعداد لمخاطبة اليونسكو والجهات الدولية المهتمة بالآثار للمساعدة في مثل هذا الأمر.
** لمن أحب تحميل الجزء الأخير من مجلدات (الكامل في التاريخ)، والذي يتحدث بإسهاب عن الموصل وفترة صلاح الدين الأيوبي: أنقر على هذا الرابط [تنبيه: حجم الكتاب: 13 ميغا]
http://mosul-network.org/books/kamil10.pdf*** إقرءوا مقترحات الملتقى لانشاء جدارية وإقامة متحف على هذا الرابط:
http://www.mosul-network.org/index.php?do=article&id=19892