عصر يوم السبت 16 آذار 2013، جمعني مع غبطة البطريرك مار لويس روفائيل الأول ساكو، لقاء ودّي، استذكرتُ فيه الأيام الخوالي الجميلة التي أمضيناها معًا في أروقة معهد مار يوحنا الحبيب ودهاليزه وكابيلّتيه وما رافق ذلك من واقع ومواقع الحياة اليومية، وقد كنتُ من حصة فرقته في السنة الأولى من دخولي المعهد المذكور في عام 1967 في الاكليريكية الصغرى.
آثرتُ أن يكون في اللقاء نفحةٌ من الخصوصية ومساحة أوفر لتبادل الرأي ومجالٌ أكبر للإنصات إلى توجيهات شيخٍ "شاب" قويّ العزيمة، مصمّم الإرادة، نضر الروحية ومتسامي الروح. في بداية اللقاء، بادرني بتمنياته لي أن أبقى شبابًا على ما لاحظه فيّ من احتفاظ معظم شعرات رأسي بسوادها، فيما شعرُه قد غزاه الشيب الوقور وأثقلته الحكمة والاتزان والمحبة والرغبة في تقديم شيء مميّز، في عصر تمرّ فيه الكنيسة جمعاء، وفي العراق والمنطقة بخاصة، بمرحلة حرجة من التجدّد والخبرة والتغيير، أحبّ البعض أن يسمّيها ب"الربيع المسيحي" لكنيسة المسيح. ومَن عرفه عن قرب، لا بدّ أن يشعر بخيوط المحبة والغيرة الرسولية التي تنبع من دواخله، وكأنها شعلة ملتهبةٌ لا تريد إلاّ اتقادًا، وقد آن أوانها لتأتي بالثمر المرتقب.
هنّأتُ غبطته وأثنيتُ على انتخابه من قبل السينودس الكلداني الذي اختاره لميزة الشجاعة التي عُرف بها مذ كان كاهنًا ومديرًا للاكليريكية في بغداد، ثمّ أسقفًا غيورًا أجاد الحوار مع أتباع الديانات الأخرى، بل لنقلْ كان رائدًا لها ومازال وبسببها ذاع صيتُه وصار نجمًا كنسيًا عالميًا مرموقًا يرغب الجميع بالتقرّب منه والتحاور معه واللقاء به.
بادر غبطته وتطرّق في الحديث عمّا أكتبه في الشأن المسيحي وأثنى على تأكيدي في المرحلة الراهنة، على أهمية الهوية المسيحية التي تجمع أبناء شعبنا بعيدًا عن التزمت أو التعصّب المذهبي أو القومي الذي ذهب إليه بعض سياسيينا ومثقفينا من مختلف الطوائف والملل، لكونه لا يخدم الهدف ولا يجدي نفعًا بقدر ما يضرّ ويحدّ من طموحاتنا الوطنية وتطلعاتنا المسيحية ويفتُّ من عضدنا وقدراتنا التي بسببه تشظى وتشرذم. شكرتُه على تشجيعه لي للمضي في ذات السياق ما أستطيع. كما جرى التطرق إلى مبادرة حوار الأديان قيد الإعداد، من جهاتٍ حريصة على إدامة روح التسامح والتآلف والوحدة الوطنية مع أتباع الديانات الأخرى التي نأمل أن ترى النور قريبًا وتأخذ مداها الوطني قبل كلّ شيء، بمباركة منه ومعه رؤساء الكنائس والطوائف الشقيقة الأخرى. ثمّ تناول الحديثُ، بذرةَ الرجاء التي يعقدها الكثيرون على تولّي غبطته زمام السدة الرئاسية للكنيسة الكلدانية وكنيسة العراق وأهمية أن تأخذ الكنيسة دورها الريادي الجامع لكلمة المكوّن المسيحي بتوحيد جهودها وبالتناغم والتآلف والتحاور بين جميع الطوائف للخروج بثمرة أولى للوحدة المسحية المرتجاة وهي توحيد الأعياد ابتداءً من السنة القادمة. ولتكن هذه المبادرة، البذرة الأولى للمّ شمل اللحمة المسيحية في كنيسة واحدة يملكها المسيح وحده، لا التيجان والصولجانات البالية التي تزول. وإن تحققت هذه المبادرة، ستكون حتمًا علامة لانتصار زمن العقل والحكمة والانفتاح بدل الانغلاق والتعصب على أمرٍ غير عقائدي.
كما عبّر غبطته عن قراره جمع إخوته رؤساء الطوائف المسيحية في لقاء أخوي مسيحي قريبٍ جدًا، لتثبيت موقف كلمة الوحدة معًا، والانطلاق بمطالب موحدة في لقاء يجمعهم مع المسؤولين في الدولة العراقية، في سعيٍ لتثبيت إخوتهم وأبناء رعاياهم في التشبث بأرض الآباء والأجداد وفي الشهادة لمسيحيتهم التي ارتوت من أجلها أرض العراق بدماء الشهداء وصارت بذارًا لحياة أفضل وليس سببًا للهروب والهجرة غير المبرّرة في أحيانٍ كثيرة. وهنا شكوتُ لغبطته نقص الوعي من بعض رجال الكنيسة و الكتاب على المواقع الالكترونية من الذين يواصلون تثبيط عزائم المسيحيين بالبكاء على مآسٍ وأحداثٍ شربنا علقمها وتجرّعنا مرارتها، تمامًا كما سار المسيح في درب الصليب والآلام، ولكنه في النهاية كان لنا جميعًا الرجاء بقيامته منتصرًا على الموت والظالمين. وهذا ما ينبغي التنبيه له والتأكيد عليه في اللقاءات على الفضائيات وفيما يُكتب في المواقع الالكترونية ووسائل الإعلام المتنوعة عن الوضع القائم في كنيسة العراق وفي المنطقة عمومًا، في أنّ لنا رجاء بالقيامة بعد طول هذه المآسي، لأنّ كنيسة المسيح مبنية على صخرة بطرسية يرعاها مسيحُها ومؤسسها ولا يمكن أن يدعها تسقط وتتآكل وتتلاشى "ها أنا معكم كلّ الأيام حتى انقضاء الدهر".
وفي السرد ذاته، بشّرني بأنه عاقدٌ العزم على ترميم البيت الكلداني الداخلي وتجديده وإنعاش روحية أساقفته وكهنته ورهبانيته ضمن برنامج طموح بدأ مشواره بقرارات جريئة وصحيحة بعد الترهل والفلتان الذي أصاب الإدارة والمالية. وما أثلج صدري نيتُه بائتمان المعهد الاكليريكي المتمثل بكلية بابل للفلسفة واللاهوت إلى إحدى الرهبانيات المشهود لها بالمعرفة والتقوى والكفاءة الإدارية والكنسية على السواء كي تأخذ على عاتقها تهيئة خداّم ورعين ورعاة أكفاء مسلّحين برباط المحبة وروح الخدمة الكنسية الحقيقية بعيدًا عن بهرجة المناصب أو الرغبة بتأسيس إقطاعيات في بلدان المهجر وهجر كنائس الملّة بعدما كانت تنتعش بفائض تُحسد عليه. كما أعرب عن نيته طرق أبواب الدول والمؤسسات والمنظمات الدولية والإقليمية والمحلية المختلفة من أجل حشد الجهود المعنوية لدعم كنيسة العراق بشتى الوسائل وإيقاف مدّ الهجرة غير المقبول عبر مشاريع تُكرّس لهذه الجهود من توفير مسكن وتأمين فرصة عمل إضافة إلى ما يحتاجه كلّ مواطن من وسائل الأمان والخدمات الآدمية، ما يساعد بالتأكيد على تثبيت المتشبثين بالأرض وتشجيع المغتربين من العودة إلى أرض الوطن.
أليس في هذه النقاط برنامج عملٍ متكامل للكنيسة والدولة العراقية على السواء، كما اعترف بذلك رئيس الحكومة العراقية في حفل التنصيب بتاريخ 6 آذار 2013؟ إنها الفرصة الذهبية لكنيسة العراق كي تنتعش من جديد وتفرض وجودها المسيحي على الساحة السياسية والمجتمعية على السواء في ضوء الكاريزما الذي يتمتع بها غبطة البطريرك ساكو، والعلاقة الطيبة التي تجمعه مع منتمي ديانات وزعماء قيادات شعبية ودينية وحزبية ومسيحية، وهو جديرٌ وكفءٌ لها، إذا سانده إخوته رؤساء الطوائف ونحن معه بما أوتينا من غيرة ومحبة واستعداد للخدمة والتنازل. فهلْ، سينزل إخوته من الأساقفة من جميع الملل، عن عروشهم ويتصالحوا مع الله والشعب ومع بعضهم البعض ويخدموا الرعية كما خدم المسيح في حياته وغسل أرجل تلاميذه وقدّم نفسه قربانًا عن الشعب؟ حينئذٍ تكون رعية واحدة وراعٍ واحد يقود كنيسة العراق والشرق إلى برّ الأمان وتحقيق المطالب المشروعة، من خلال التفاف بطاركة الشرق وأساقفتهم جميعًا حول بعضهم، وتحرّكهم يدًا واحدة وهدفًا موحدّا على طريق بناء الوطن عبر الرجاء والقيامة والنصر.