12-08-2009 تصريح رسمي
اتفاقيات جنيف لعام 1949: أصولها وأهميتها الراهنة
بقلم الدكتور فيليب شبوري مدير القانون الدولي- اللجنة الدولية للصليب الأحمر
فيليب شبوري مدير القانون الدولي- اللجنة الدولية للصليب الأحمر
فيليب شبوري مدير القانون الدولي- اللجنة الدولية للصليب الأحمر
أصحاب السعادة، سيداتي وسادتي،
شكرا لكم على حضوركم هذا الصباح ونحن نحتفي بالذكرى الستين لاتفاقيات جنيف. فالمهمة التي أوكلتها لنفسي تكمن في أنني أود، في خلال الدقائق العشرين التالية، تقديم نظرة موجزة عن تاريخ اتفاقيات جنيف لعام 1949، والإمعان في الوقت نفسه في أهميتها الراهنة. وسيقوم رئيسنا، السيد "جاكوب كيلينبيرغر"، بإلقاء كلمته لاحقا لاستعراض أهم التحديات على طريقنا، وخاصة عملنا مستقبلاً في مجال القانون الإنساني.
تظل الحرب العالمية الثانية نزاعًا يتسم بعنف رهيب لم يسبقه مثيل، إذ لم ينحصر في ما ارتكبه المقاتلون ضد بعضهم بعضًا، بل في أن أغلبه طال المدنيين مباشرة، فجاءت الخسائر فادحة بسبب نزعة الإنسان إلى شن الحروب والنزاعات منذ حرب الثلاثين سنة. وبعد اكتشاف معسكرات الاعتقال النازية، وإدراك مدى نطاق الإبادة الجماعية التي دارت داخل جدرانها، اتضح حجم الفاجعة التي كابدها العالم خلال الفترة من 1939 إلى 1945، فزاد هولها درجات. ولكي نستحضر ما ساد من شعور في تلك الحقبة، فلربما يكفينا الاستشهاد بما قاله الجنرال أيزنهاور وهو يزور مخيم إبادة نازي في عام 1945 بأنه "يتعين على العالم معرفة ما حدث، ولا يجوز لنا أن ننسى ذلك أبدًا".
ومما لا شك فيه أن مأساة الحرب العالمية الثانية أدت بشكل حاسم إلى اتخاذ قرار صياغة اتفاقيات جنيف لعام 1949 حيث سعت الاتفاقيات إلى سد ثغرات في القانون الدولي الإنساني كشفها النزاع.
ومع ذلك، فإن القول بأن ما تحقق من تقدم في عام 1949 يرجع أساسًا إلى ويلات الحرب العالمية الثانية قول فيه نظر، إذ لا يجب إغفال حقيقة أن موضوع النهوض بحماية ضحايا الحرب (خاصة المدنيين) قد دارت بشأنه نقاشات قبل اندلاع الحرب ذاتها. فقد نظرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر منذ بداية عشرينيات القرن الماضي في مشاريع متنوعة، صُمم واحد منها لحماية المدنيين من عواقب الحرب، وخاصة الحرب الجوية. كما عمدت اللجنة إلى صياغة مشروع اتفاقية لحماية المدنيين الذين يقعون في قبضة قوات العدو. وهذا المشروع الذي عُرف في ما بعد بمشروع طوكيو لأنه عُرض على المشاركين في المؤتمر الدولي للصليب الأحمر الذي انعقد في العاصمة اليابانية في عام 1934، شكَّل موضوع مؤتمر دبلوماسي عُقد في سويسرا لاحقًا. وفي ما يخص المؤتمر الدبلوماسي لعام 1929 حيث اعتمدت اتفاقية أسرى الحرب، فقد حَدَا اللجنة الدولية آمال كبيرة بأن الدول ستُظهر مزيدًا من حسن النية آنذاك بشأن المدنيين، لكن آمالها هذه تبخرت بعد حين. وقد أدى فتور حماس مختلف الحكومات إلى تأجيل موعد عقد المؤتمر الدبلوماسي، ولم تستطع سويسرا الإعلان عنه إلا في يونيو/حزيران، 1939، وحُدد تاريخه في بداية عام 1940. وجميعنا يعلم ما آل إليه مكر التاريخ بعد ذلك.
انصبت أغلب جهود اللجنة الدولية طوال فترة الحرب على أنشطتها الميدانية، لكنها استمرت، بصفتها الجهة الوصي على القانون الدولي الإنساني، في إثارة موضوع استئناف عملية مراجعة قانون جنيف وتوسيع نطاقه في أقرب فرصة ممكنة.
أحاطت اللجنة الدولية في فبراير/شباط 1945، أي قبل انتهاء العمليات العدائية، الحكومات، وجمعيات الصليب الأحمر الوطنية، علمًا بأنها تنوي مراجعة اتفاقيات جنيف القائمة آنذاك، واعتماد اتفاقيات جديدة، وهي في غمرة تساؤلات عدة بشأن موقع القواعد الإنسانية في حقبة اتسمت باندلاع الحرب الشاملة.
وبعد أن تخلصت اللجنة الدولية من المخاوف التي سكنتها، نظمت مؤتمرًا تحضيريًا لجمعيات الصليب الأحمر الوطنية في جنيف قصد تدارس الاتفاقيات التي تحمي المدنيين في وقت الحرب في سبتمبر/أيلول 1945، ومؤتمرًا للخبراء الحكوميين في عام 1947. وانصب مؤتمر الخبراء هذا على مراجعة اتفاقيتي جنيف حينها، بغية الخروج بمنظور بشأن "الجرحى والمرضى" و "أسرى الحرب"، والعمل، قبل أي شيء آخر، على تحضير اتفاقية جديدة بشأن ظروف المدنيين وحمايتهم في أوقات الحرب.
ساند الخبراء الحكوميون مقترحات اللجنة الدولية، بما في ذلك فكرة جديدة دعت إلى تطبيق الاتفاقيات على جميع حالات النزاعات المسلح، بما فيها النزاعات الداخلية. وقد كان لهذه المؤازرة أن زادت في حماس اللجنة الدولية حيث بادرت إلى إخطار السلطات السويسرية برغبتها في عقد مؤتمر دبلوماسي آخر. وخلال الفترة ذاتها، وافق المشاركون في المؤتمر الدولي السابع عشر للصليب الأحمر في ستوكهولم في عام 1948 على مراجعة اتفاقيات جنيف وتكييفها.
انطلق المؤتمر الدبلوماسي في 21 أبريل/نيسان بمشاركة ممثلين من 64 بلدًا، أي مجموع دول العالم تقريبًا آنذاك. واستنادًا إلى روايات شهود عيان من بلدان مختلفة، لم يعرف أي مؤتمر آخر ما تميز به هذا المؤتمر من إعداد جيد. ومع ذلك، استغرقت فترة تحضيره أربعة أشهر تقريبًا، مما فاجأ العموم، وفاقت مدة انعقاده ما كان متوقعًا، في حين ساد بين المشاركين شعور بالتفاؤل، إن لم نقل إحساس بالعِشرة، والصدق في الطرح، ولو أن العالم دخل لتوه حقبة الحرب الباردة. وبعد مختلف المداولات، اعتمد المؤتمر الاتفاقيات الأربع التالية:
- اتفاقية جنيف الأولى لتحسين حال الجرحى والمرضى بالقوات المسلحة في الميدان؛
- اتفاقية جنيف لتحسين حال جرحى ومرضى وغرقى القوات المسلحة في البحار؛
- اتفاقية جنيف بشأن معاملة أسرى الحرب؛
- اتفاقية جنيف بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب.
وعموما، ساهمت هذه النصوص الأربعة إسهامًا عظيمًا في توسيع نطاق القانون الدولي الإنساني. وظهر أن المادة 3 المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع حققت نصرًا لا يفوقه نصر، إذ توسع نطاق مبادئ الاتفاقيات ليشمل النزاعات المسلحة غير الدولية، متجاوزًا بذلك تلك الصعوبات المرتبطة بمبدأ السيادة الوطنية. فاستنادًا إلى المادة 3، أصبحت الأطراف في النزاعات المسلحة الداخلية مُلزَمة باحترام حقوق الإنسان الأساسية. فلا غرو إذن أن تكون المادة 3 قد أفرزت أشد مناقشات المؤتمر حدة وأطولها مدة.
ولعل اعتماد الاتفاقية الرابعة، التي تمنح المدنيين نفس الحماية التي تمنحها لضحايا الحرب الآخرين، يظل أهم تقدم تحقق حينها. فقد وصفها السيد "بول روغير"، رئيس اللجنة الدولية في ذلك الوقت، أنها "معجزة"، إذ مكنت المشاركين من سد أشد الثغرات خطورة وهي الثغرات التي كشفتها الحرب العالمية الثانية وحروب أخرى سبقتها.
تُؤرخ اتفاقيات جنيف الأربع بيوم 12 أغسطس/آب 1949، الذي يسجل تاريخ التوقيع على البيان الختامي للمؤتمر الدبلوماسي الذي ألحقت به الاتفاقيات. كما وقَّع في الوقت ذاته 18 وفدًا حكوميًا الاتفاقيات الأربع الجديدة.
وتم عَقد حفل توقيع ثان في جنيف في 8 ديسمبر/كانون الأول 1949، بعد أن طلبت وفود أخرى إمهال حكومات بلدها بعض الوقت لدراسة نصوص الاتفاقيات عن كثب. وبهذه المناسبة، بَصَم ممثلو الحكومات توقيعهم على الاتفاقيات الجديدة على نفس الطاولة التي استُخدمت للتوقيع على اتفاقيات جنيف لعام 1864، في إيماءة حُبلى بأكثر من رمز تاريخي.
وقد لاقت اتفاقيات جنيف نجاحًا هائلاً منذ الوهلة الأولى، ودخلت حيز النفاذ في 21 أكتوبر/تشرين الأول 1950بعد التصديقين الأولين. وصادقت عليها 74 دولة في عقد الخمسينيات، ووقعت عليها 48 دولة في عقد الستينيات، ثم توالت التصديقات تدريجيا في عقد السبعينيات (20 تصديقًا)، وفي عقد الثمانينات (20 تصديقًا). وفي بداية عقد التسعينيات، صادقت 26 دولة جديدة على الاتفاقيات، خصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وتشيكوسلوفاكيا، ويوغوسلافيا السابقة. وعندما نضيف التصديقات السبع منذ عام 2000، فإن تطبيق اتفاقيات جنيف أصبح يطال العالم بأسره، أي ما مجموعه 194 دولة طرف.
وحتى الوقت الراهن، تظل اتفاقيات جنيف الحجر الأساس للقانون الدولي الإنساني المعاصر. فهي تحوي القواعد الأساسية لحماية الأشخاص الذين لا يشاركون في العمليات العدائية مباشرة أو الذين توقفوا عن المشاركة فيها عندما يقعون في قبضة الطرف الآخر. فهؤلاء الأشخاص، كما أوردنا سابقا، جرحى، ومرضى، وغرقى القوات المسلحة في البحار، وأسرى الحرب، ومدنيين، بمن فيهم المدنيون الذين يعيشون تحت الاحتلال.
إن المفهوم الأساس الذي تنبني عليه اتفاقيات جنيف مفهوم يرتبط باحترام حياة الفرد والحفاظ على كرامته. فلجميع من يعاني ويلات الحرب الحق في المساعدة والرعاية من غير تمييز، في حين تؤكد الاتفاقيات على ضرورة تعزيز دور البعثات الطبية، إذ يتعين حماية واحترام الموظفين الطبيين، والوحدات الطبية، ووسائل نقلهم في جميع الظروف، وهذا شرط لا بد منه لتمكين هذه الوحدات من جمع الجرحى والمرضى وتقديم الرعاية لهم. ثم إن المبادئ التي تنبني عليها هذه القواعد قديمة قدم النزاعات المسلحة نفسها.
ورغم ذلك، فإن السؤال التالي ما فتئ يتردد بين الفينة والأخرى: هل للاتفاقيات أهمية في عالم اليوم، وهل لازالت لها جدوى في الحروب المعاصرة؟
لقد أظهرت نتائج استطلاع للرأي بشأن أهمية القانون الدولي الإنساني أُجري في بلدان تضررت من الحرب، وشمل سلسلة من الأسئلة عما يعتبره المشاركون في الاستطلاع سلوكاً مقبولاً خلال العمليات القتالية، وعن رأيهم بشأن فعالية اتفاقيات جنيف. ويحمل هذا البحث عنوان "عالمنا: وجهات نظر من الميدان"، أجرته وكالة إيبسوس في أفغانستان، وكولومبيا، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وجورجيا، وهايتي، ولبنان، وليبيريا، والفلبين. وأود الإشارة هنا إلى أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر هي التي طلبت بالتحديد إجراء هذا الاستطلاع، ونشرت نتائجه يوم أمس.
أغلب المشاركين البالغ عددهم 4000 مشارك ومشاركة ينتمون إلى ثمانية بلدان – 75%- أشاروا إلى أنه ينبغي وضع حدود على ما يسمح به للمقاتلين خلال الاقتتال. لكن عندما سئلوا إن كانوا قد سمعوا عن اتفاقيات جنيف، أشار نصف عددهم تقريبا أنهم كانوا على علم بقواعدها في حين رأى 56% منهم أن الاتفاقيات تحد من معاناة المدنيين في وقت الحرب.
كما أظهرت النتائج دعمًا واسعًا، من لدن أشخاص عاينوا النزاع فعلاً، وتضرر بلدهم من عنف الاقتتال، للأفكار الأساسية التي تنطوي عليها اتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني عمومًا.
لكن الاستطلاع أظهر أيضا – وهذه مفاجأة في نظري- أن الشعور بوقع القواعد على أرض الواقع أقل بكثير من الدعم الذي تلقاه الاتفاقيات. وهذا مؤشر قوي إلى أن الناس في البلدان المتضررة من الحرب يتطلعون إلى احترام أفضل للقانون وتنفيذه.
وبغرض استجلاء مسألة أهمية اتفاقيات جنيف، فإنني سأتطرق إلى أهميتها في النزاعات المسلحة الدولية (بين الدول)، والنزاعات المسلحة غير الدولية، كل على حدة، وسأحاول طرح بعض الأمثلة استجلاءً لأهميتها عمليًّا.
لا ينبغي أن يغيب عنا عند القيام بتحليل أدق لمسألة أهمية الاتفاقيات أن الجزء الأكبر من اتفاقيات جنيف ينصب على تنظيم النزاعات المسلحة الدولية، بما فيها حالات الاحتلال العسكري. ومن حسن حظنا أنه في حين أن النزاعات والاحتلال من هذا القبيل لم تعد تندلع بنفس وتيرة الماضي، إلا أنه ينبغي علينا الإقرار بأنها حالات لم تختف بالمرة. وآخر الأمثلة على النزاعات التي تكون فيها الاتفاقيات واجبة التطبيق تطبيقًا كاملاً النزاع في أفغانستان (2001-2002)، وحرب العراق (2003-2004)، والنزاع في جنوب لبنان (2006)، والنزاع بين روسيا وجورجيا (2008). وما دام ثمة نزاعات دولية وحالات احتلال، وقياسًا على هذه النزاعات وحالات الاحتلال، فإن الاتفاقيات تظل فاعلة ومهمة في الوقت الراهن وفي المستقبل. وعليه، فإن الحفاظ على هذا المكسب الإنساني الذي قبلت به جميع الدول الأطراف في الاتفاقيات مبتغى في غاية الأهمية. ومهما كان نوع التحولات مستقبلاً، فإنه ينبغي أن تنبني على أساس القواعد القائمة حاليا.
وفيما يلي مثال يجسد هذا المكسب: إن القواعد التي تضبط شروط الاعتقال وظروفه فضلٌ أساس في إنقاذ أرواح الكثير من المعتقلين وضمان رفاهيتهم. فاللجنة الدولية تقوم بعملها في الميدان، بما فيها زيارة المعتقلين، على أساس قواعد اتفاقيات جنيف، وذلك بهدف منع حالات الاختفاء القسرى، والإعدامات بغير محاكمة، والتعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، ورصد ظروف الاعتقال المادية، ومن خلال رسائل الصليب الأحمر لربط الاتصال بين المعتقلين و أسرهم.
ولعل بعض الأرقام من نزاعات دولية حديثة العهد تكفي لتوضيح ما نذهب إليه بأن اتفاقيات جنيف تظل مهمة بالنسبة لضحايا الحرب. ففي خلال النزاع الذي دار بين إريتريا وإثيوبيا، زارت اللجنة الدولية في عام 2000 لوحده، أكثر من 1000 أسير حرب إثيوبي، وما عدده 4300 معتقل مدني. وعلاوة على ذلك، تم تبادل عدد 16326 رسالة بين أسرى الحرب الإريتريين والإثيوبيين وأسرهم. كما سهرت اللجنة على توفير ممر آمن عبر خط المواجهة لما عدده 12493 مدنيًا من أصل إثيوبي. وبتعاون مع الصليب الأحمر الإريتري، وزعت اللجنة الدولية مساعدات على أكثر من 150000 مدني تضرروا من النزاع، ووفرت، بتعاون مع وزارة الصحة، مواد جراحية لمعالجة عدد 10000 جريح حرب.
أما في العراق، فقد زارت اللجنة عدد 6100 أسير حرب، و عدد 11146 من المحتجزين والمعتقلين المدنيين في قبضة القوات المحتلة في الفترة من أبريل/نيسان 2003 إلى مايو/أيار 2004، إضافة إلى توزيع أكثر من 16000 رسالة من رسائل الصليب الأحمر. وحتى بالنسبة للنزاع قصير المدى نسبيًا بين روسيا وجورجيا في عام 2008، استفاد عدد من أسرى الحرب من الحماية، والصفة القانونية التي تمنحهم إياها اتفاقية جنيف الثالثة. فعلى أساس هذه الاتفاقية، تمكنت اللجنة الدولية من زيارة أسرى هذه الحرب.
ومع ذلك كله، لا يمكن تحويل التأثيرات الإيجابية لاتفاقيات جنيف إلى أرقام ملموسة. فالقيمة الحقيقية للاتفاقيات لا تنحصر في الخير الذي ساهمت في فعله، بل في الشر الأدهى الذي ربما تكون قد ساعدت على درئه. وعلى سبيل المثال، علمتنا تجاربنا أن الشارتين المميزتين للصليب الأحمر والهلال الأحمر وفَّرتا الحماية لعدد لا يحصى من المستشفيات، والوحدات الطبية، والعاملين الطبيين، وجرحىً ومرضىً لا يقلون عددًا. وفي السنوات الأخيرة، عايننَا ولسوء الحظ أمثلة أكثر من أن تُحصى لانتهاكات صارخة للشارتين والمهمات الطبية. وأود في ما يرتبط بهذه النقطة بالذات القول إنه: لولا القواعد الواردة في الاتفاقيات، لكانت الأوضاع قد تفاقمت أكثر، وتدهورت معها أوضاع الضحايا، وزادت محنة من يسعى إلى تقديم المساعدة إليهم وحمايتهم.
وعليه، فإنني أقول إن اتفاقيات جنيف خدمت أهدافها أفضل خدمة طوال الستين عاما الماضية، وأنها تظل مهمة للغاية، وهذا ينطبق بكل تأكيد على حالات النزاعات الدولية، بما فيها حالات الاحتلال.
لكن هل ينطبق هذا القول أيضا على النزاعات المسلحة غير الدولية؟ لا شك أنه من منظور دراسة الظواهر، يمكن القول إنها تنطبق أيضا على أنواع النزاعات التي تهيمن على الساحة في الوقت الراهن، إذ يتعين علينا التصدي هذه الأيام لنزاعات تتباين كثيرًا، شكلاً ومضمونًا. وهذه النزاعات حروب أهلية داخلية تتدفق أحيانًا إلى دول أخرى. وقد تتصادم فيها قوات الحكومة ومجموعات مسلحة، ومن الوارد أيضا أن تجمع فرقًا مسلحة تقاتل بعضها بعضًا. كما يمكن لهذه النزاعات أن تشمل دولاً ثالثة أو قوات متعددة الجنسيات تقاتل إلى جنب الحكومة. ويمكن الإشارة في هذا الصدد مثلا إلى الأوضاع في إقليم دارفور في السودان، وكولومبيا، وشرق جمهورية الكونغو الديموقراطية، وكذلك الأوضاع الراهنة في أفغانستان، والعراق، والصومال. وتغطي اتفاقيات جنيف جميع هذه الأوضاع حيث أن المادة المشتركة 3 في اتفاقيات جنيف تتناول أي نزاع مسلح غير دولي، أي أن أي نزاع لا يجمع دولتين يدخل في نطاق هذه المادة. وعلى رغم أن هذه المادة تمثل حكمًا واحدًا فقط، إلا أنها جمعت القواعد الأساسية في بوتقة واحدة:
1- تشترط هذه المادة معاملة جميع من يقع في قبضة العدو معاملة إنسانية، بغض النظر عن تصنيفه القانوني أو السياسي، أو من يسيطر عليه. ونتيجة لذلك، لا يجوز وضع أي أحد أو معاملته خارج المادة المشتركة 3، أو حرمانه من الحماية.
2- تشترط المادة أن يتم جمع الجرحى، والمرضى، وغرقى القوات المسلحة في البحار، ورعايتهم.
3- تمنح المادة اللجنةَ الدولية حق توفير خدماتها إلى أطراف النزاع. وعلى أساس المادة المشتركة 3، تلح اللجنة في طلب زيارة المحرومين من الحرية الذين لهم علاقة بالنزاعات المسلحة غير الدولية، وتتم الاستجابة إلى هذا الطلب عمومًا.
4- وتقر المادة أخيرا بأن تطبيق هذه القواعد لا يؤثر بأي شكل من الأشكال في الوضع القانوني لأطراف النزاع.
ويمكننا من خلال هذا الاستعراض ملاحظة أن المادة المشتركة 3 ليست مادة مثل باقي المواد، بل اتفاقية مصغرة داخل الاتفاقيات. وقد علقت محكمة العدل الدولية على هذه المادة بالقول إنها تعكس "الاعتبارات الأساسية عند الإنسان". وعلى ضوء شيوع النزاعات غير الدولية، فإن المادة المشتركة 3 لازالت تكتسي أهمية لا تضاهيها أهمية. وبالنظر إلى النزاعات المسلحة غير الدولية إذن، تظل اتفاقيات جنيف في غاية الأهمية حاليا. وبالنظر مرة أخرى إلى قبولها العالمي، فإن المادة المشتركة 3 واجبة التطبيق في أي نزاع مسلح غير دولي قد يندلع في أي مكان من العالم.
سيداتي وسادتي،
إذا أردنا أن نستشف فعلاً قيمة اتفاقيات جنيف وأهميتها، فإنه يتعين علينا النظر عليها من زاوية سليمة. فمن الخطأ تقييمها في معزل عن محيطها. فمنذ التوقيع على الاتفاقيات في عام 1949، تم تنقيحها وتطويرها بثلاثة بروتوكولات إضافية، اعتُمد اثنان منها في عام 1977، أي قبل 30 سنة خلت، واعتُمد الثالث مؤخرًا في عام 2005 ليشمل الكريستالة (البلورة) الحمراء، الشارة الجديدة.
لقد جاءت صياغة البروتوكولين الإضافيين في عام 1977 تصديًا للتحولات التي طرأت على الحرب، وخاصة توسع نطاق حرب العصابات، وتنامي معاناة المدنيين في النزاعات المسلحة بسبب تطور تكنولوجيا السلاح نسبيا. فقد سمح البروتوكولان بإدخال قواعد أساسية ترتبط بطريقة شن الحرب، ومناهجها، ووسائلها، تعزيزًا لحماية المدنيين، وسمحت على الأخص بصياغة مبدأ هام للتمييز بين المدنيين والمقاتلين، وبين الأهداف المدنية والأهداف العسكرية. كما وسعت نطاق لائحة الضمانات الأساسية الواجب تطبيقها على جميع الأشخاص الذين يقعون تحت سيطرة الطرف الآخر.
وجاء البروتوكولان الإضافيان لعام 1977 أيضا ردًا على انتشار النزاعات المسلحة الداخلية. فالبروتوكول الإضافي الثاني، يُعد في واقع الأمر أول معاهدة خُصصت حصريًا لحماية المدنيين في مثل هذه النزاعات، وبسطت موضوع الحماية التي توفرها المادة المشتركة 3.
وفي حين أنه تم التصديق عالميا على اتفاقيات جنيف لعام 1949، لا يزال بروتوكولاها الإضافيان دون ذلك. فحتى الآن، صادقت 168 دولة على البروتوكول الأول و صادقت 164 دولة على البروتوكول الثاني. وعلى رغم أن البروتوكولين الإضافيين لعام 1977 يُعدان أكثر الصكوك القانونية قبولاً في العالم، إلا أنه لا ينبغي لنا أن نرضى عن هذا الوضع. فالقواعد المنظِّمة لشن الحرب، والضمانات الأساسية الواردة في البروتوكولين الإضافيين لعام 1977 ضرورة حتمية، والاعتراف بهما وقبول تطبيقهما ضروريان اليوم مقارنة بأي وقت مضى. ولهذا السبب، فإن اللجنة الدولية ترى أنه ينبغي أن تكون مسألة التصديق على البروتوكولين الإضافيين من الأولويات، وندعو بالمناسبة جميع الدول التي لم تصادق بعد، الانضمام إلى هذه الصكوك. فمن شأن التصديق العالمي على اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضافية، وضع إطار قوي لحماية ضحايا الحرب في كل مكان، ومن دون أي تمييز. إن الوضع الراهن وضع غير مريح لأنه يجعل من التزامات المعاهدة وبروتوكولاتها صالحة التطبيق في بعض النزاعات، وغير ذلك في نزاعات أخرى.
وتلبيةً لطلبات المجتمع الدولي، حاولت اللجنة الدولية تدارك الموقف، وعمدت إلى تحديد قواعد القانون الدولي العرفي الواجب تطبيقها بغض النظر عن سجل التصديقات على قوانين المعاهدة. ومع ذلك، فإنه لا يمكن للقانون العرفي أن يحل محل اليقين القانوني الذي يفرزه التصديق على المعاهدات. وختامًا، أدعو مرة أخرى إلى انضمام عالمي إلى صكوك القانون الدولي الإنساني القائمة، وخاصة البروتوكولات الإضافية لاتفاقيات جنيف.
وشكرا على حسن انتباهكم.