الدولة : الجنس : عدد المساهمات : 10384تاريخ التسجيل : 07/10/2009
موضوع: السنين ان حكت : كتابات : زيد الحلي الثلاثاء 15 يونيو 2010 - 20:07
السنين إن حكت :
5 حزيران 1967 بين يقظة الصحافة العراقية ونوم العسكريين العرب .. الخبر الصحفي الأول عالمياً...عراقي!!
كتابات - زيد الحلي
ظلّ ما سأرويه ، جاثما قي صدري ، تحت ستار الذاكرة ، طيلة 43 عاما بالتمام والكمال .. وكلما مرت ذكرى العدوان الاسرائيلي في الخامس من حزيران عام 1967 ، أشعر بالحسرة والندم ، فما عندي من سر يكاد يكون مطمورا في تيه النسيان ، وكأنه كتلة من دخان كثيف ، تلاشى في فضاء الحياة ، فلم يبقى له أثراً !
لقد كتب الكثير .. الكثير عن ذلك العدوان ، الذي مزّق العرب ، وأظهر بؤس الاستعداد السياسي والعسكري والاقتصادي والاعلامي لأحتمالات العدوان الصهيوني في الوقت الذي كان يمسي فيه المواطن ويصبح على قرعات طبول الحرب ، غير أن الأمر كان يسير بأتجاه مغاير في دهاليز وأروقة قصور الحكام العرب حيث إنعدمت الرؤية العسكرية و ستراتيجياتها عدا ستراتيجية الكلام والتهويش الاعلامي..ولعل من المفيد ،هنا ، ونحن نستعيد ذكرى العدوان الصهيوني ، ان نفتح ملفا مشرقا في مسيرة الصحافة العراقية .... فما هو ؟
وسط فوضى التصريحات والتنظيرات التي سيقت عدوان الخامس من حزيران عام 1967 ، كانت هناك جريدة عراقية تصدر ببغداد، بثمان صفحات وعدد العاملين فيها ستة " إدارة وتحريراً " هي جريدة ( العرب ) تنشر على صفحتها الثالثة يوميا ، سلسلة دراسات عسكرية ، إعتبارا من العشرين من شهر مايس 1967 تحت عنوان ( حرب ام لا حرب ) بقلم اللواء الركن محمود شيت خطاب ، وكان العبد لله ، مكلفاً من رئيس تحرير الجريدة الحاج نعمان العاني ، بجلب تلك المقالات ..
وقد تعوّد الكاتب خطاب ، الذي ودّع الدنيا في العام 1999 ، وفي رأسه خزين هائل لا يقدر بثمن من المعلومات والقراءات للفكر العسكري الاسرائيلي ، أن يهيء ثلاث مقالات في كل مرة بحيث يكون ، تحت يد رئاسة التحرير ، مقالان ، عدا المقال المنشور ... وهكذا إستمر الحال ..
كانت سعادتي ، وأنا أتوجه الى دار ذلك الرجل الكبير، النابغة ، لاتوصف.. كنت أقضي عنده وقتاً يزيد على الساعة ، قبل أن يسلمني مقالاته التي أصبحت الآن تاريخاً مضيئاً في مسيرة العقل العسكري العراقي والصحافة العراقية ، أستمع فيها الى ينابيع الكلام من فم مليئ بالحكم والعبر... ذهنه مرتب ويمتلك عقلية علمية منظمة .
الباص ذو الطبقتين
وأتذكر ، وأنا الصحفي،الشاب ، إذ لم يكد يمضي على إشتغالي في الصحافة ، سوى 3 سنوات كنت ، أستقل قي ذهابي وإيابي باص نقل الركاب الأحمر الجميل ذي الطبقتين بطرازه اللندني المعروف .. وعندما أستلم " المقالات " وقد وضعها كاتبها في ظرف كبير أنيق ، غير مغلق ، أبدأ بفتح المظروف أثناء العودة ، لأقرأ ما سطرته أنامل ذلك الانسان الكبير ... ولم أنقطع عن القراءة ، حتى وصولي الى منطقة " جديد حسن باشا " وأدلف الى شارع " حسّان بن ثابت " لأدخل بعد ذلك مبنى مطبعة " دار الجاحظ " لصاحبها "رسمي العامل " حيث مكان إدارة الجريدة ، وأتوجه مباشرة الى غرفة " ابوقابوس" الحاج العاني، لأسلمه المقالات ..
وأستمريت على هذا المنوال ، حتى جاء يوم الخميس 1حزيران 1967 ، و " الخميس " يوم عطلتنا حيث جرت العادة إن لا تصدر الجريدة يوم " الجمعة " من كل إسبوع ...في ذلك اليوم جاءني الزميل " مظهر عارف " وكنا نعمل سوية في " العرب " الى البيت عصراً بينما كنت على وشك الخروج ... لقد إستغربت زيارته في ذلك الوقت ، لكنه ، طمأنني قائلا ان رئيس التحرير طلب ، ان أذهب الى بيت اللواء الركن محمود شيت خطاب ... وسألته مستغرباً : لماذا ؟ فأنا جلبت مقالاته للأيام الثلاثة القادمة ( 3 ـ4 ـ 5 حزيران) فأجابني بأنه ، لا علم لديه ، ربما كوني الوحيد الذي يعرف سكن اللواء خطاب .. الخ .. ودّعني الزميل على أمل أن نلتقي مساءا ضمن " شلّتنا " التي كانت تلتئم مساء كل خميس ، وهي تضم الأعزاء ( المرحوم المذيع رشدي عبد الصاحب والمخرج المبدع علي الانصاري و عباس الخطاط أطال الله في عمرهما )..
ذهبتُ الى حيث أراد رئيس التحرير..
وجدتُ اللواء الركن ، واقفاً عند باب داره .. وصاح قبل أن ألقي عليه السلام ، بصوت لم أعتده منه : هل بأمكان عمكم "الحاج ابو قابوس " إصدار الجريدة غدا الجمعة ؟ قلت له : لا اعتقد ، لكني إستدركت : بامكانك الإتصال به ..
المقال ... السر!
طأطأ رأسه ... ثم أردف قائلا بصوت حملّ نبرات حشرجة واضحة : خذ هذه المقالة معك وسلّمها غدا لــ( الحاج ابو قابوس ) لتنشر يوم السبت ، بدلا عن المقالة الموجودة لديكم .. وقد لاحظت ان المظروف كان في هذه المرة ، مغلقا ، لكن دون إحكام . . ودعت الرجل ، الذي زادت حمرة وجهه ، وبانت عليه ملامح القلق واليأس.. وحملت المقالة ، تاركا كاتبها في لجة الألم والاضطراب ، دون أن أعرف سبب قلق الرجل .
ذهبت الى الجريدة ، فوجدتها خالية إلا من حارس المطبعة " ابو حسن " ... ولم أستطع مهاتفة رئيس التحرير لعدم معرفتي لرقم هاتف بيته ... فمسكت المظروف في يدي ، وتوجهت غير مكترث الى حيث ملتقانا المعتاد في نادي " السكك " في صالحية بغداد ممارسين لهونا في لعبة" الدنبلة" وإراحة أدمغتنا المتعبة !!
رغم ، كلام اللواء الركن شيت خطاب غير المعتاد معي ، وما بان عليه من وضع لا يستقيم مع طباعه الهادئة ، لم أتكهن بأن المقالة التي أحملها ، تتضمن ( سراً ) خطيراً لا يعرفه الملوك والرؤساء العرب ولا قادة ورؤساء أركان الجيوش العربية ، لقناعتي بأن الصحف العربية محظور عليها تناول الشأن العسكري بصورة مباشرة او غير مباشرة !
وفي الليل الساكن في حضن السماء وفي هزيعه الاخير وبعد زوال تأثير متعة نادي " السكك" دفعني الفضول الى فتح المظروف برويّة وأناة لقراءة المقال الذي أراد كاتبه أن ينشر سريعاً.. يا ألهي .. المقال ، يحذر بصورة أكيدة ومؤكدة ، بأن العدوان الإسرائيلي ، واقع لا محال( يوم الاثنين 5 حزيران ) ... أعدت القراءة مرة ثانية وثالثة .. وتوجهت الى مذياع البيت القديم ، نوع ( تلفونكن) ذي الموجات الست ، باحثاً من خلال مؤشره عن خبر او تعليق حول الموضوع ... إذاعة بغداد صامته وإذاعة " صوت العرب " تعيد مواجيزها السابقة فيما إذاعة " إسرائيل " تبث أغنية " انت عمري " لأم كلثوم !!
خلدتُ الى نوم قلق ... وفي الصباح توجهت الى الجريدة ، فوجدت مؤتمنها " المرحوم ناصر جرجيس " فسلمته المقال الذي دفعه ، قبل ان يقرأه الى عمال " اللاينو تايب " لتنضيده بسرعة قبل ان ياتي الأستاذان : رئيس التحرير الحاج نعمان العاني ومدير التحرير شاكر علي التكريتي وما أن حلت الساعة العاشرة ، حتى كان الإثنان يقرأن المقال ... الذي كنت قرأته بالامس !! ثم ، نادى عليّ أستاذي التكريتي ، متسائلا عن " ظروف جلبي لهذا لمقال " موحياً بأنه لايعرف شيئا ، وأظن إنه محق في ذلك ، فالامر ، كما عرفت ، كان محصوراً بين اللواء خطاب وبين الحاج العاني .. فحدثته بالتفصيل ، وأثناء حديثي لاحظت محاولاته المتكررة للاتصال باللواء خطاب لكنه لم يوفق ..
السياسيون لا يوافقون..
حمل التكريتي المقال ، وبروفته المطبوعة على ورق اسمر ، وخرج دون أن ندري وجهته وعلمت لاحقا ان الرجلين تقاسما الأدوار : رئيس التحرير توجه لرؤية " الرئيس عبد الرحمن عارف" والتكريتي ذهب الى قريبه رئيس الوزراء " طاهر يحيى ".
ولم يمض من الوقت سوى ساعتين ، عاد التكريتي ، حاملا معه خبرا يقول ان الفريق يحيى إتصل باللواء خطاب ... وفي ضوء هذا الاتصال ، قرر المغادرة فوراً الى القاهرة للقاء الرئيس جمال عبد الناصر وقادة أركانه ..
وفعلا غادر الفريق يحيى الى القاهرة ، لكن الاخبار جاءت مساءا من مقر إقامته في فندق
" شبرد " : ان رئيس وزراء العراق لا يتوقع نشوب الحرب !!
صدرت الجريدة " العرب " يوم السبت 3 حزيران ، ولم يكن فيها المقال " النبؤة " للواء الركن محمود شيت خطاب الذي يؤكد ان ( إسرائيل ستشن الحرب 5 حزيران ) وتجرأت ، فسألت عن سبب عدم النشر ، فقال إستاذي مدير التحرير ، بأن الرئيس عارف ورئيس الوزراء طاهر يحيى طلبا التريث في نشره للتشاور مع القادة العرب !!
وهنا ، تفوقت غزيرة الصحافة والسبق فيها على دعوات السياسيين ، فأمر السيد مدير التحرير بالاتفاق مع رئيس التحرير ، على نشر المقال " النبؤة " يوم الاحد 4 حزيران ، في عدد الجريدة المرقم 856 ، في وقت كان كاتبه قد طلب نشره قبل ذلك التاريخ بأيام ، لكنه نشر على أية حال ، وبذلك ، فاقت الصحافة كل صحف ومراكز الأبحاث العربية والعالمية بشأن العدوان ..
كان تحذيراللواء شيت خطاب ، هواء في شبك الفوضى العربية ، فاللحظات الحاسمة تحتاج الى حكمة وجراة ومبادرة وتشخيص صحيح ... كانت تلك الايام ، تمثل لحظات خطيرة جدا في تأريخنا العربي ، غير ان الفشل في إقتناصها أدى الى الى خسارة فادحة جداً ...ولم يلتفت القادة العرب ووزراء الدفاع ورؤساء أركانهم الى صرخة الصحافة العراقية ، التي أعلنت إحدى صحفها عن موعد العدوان بدقة.. كان العسكر والقادة نيام فيما الصحافة العراقية كانت يقظة ..
وإنني أتساءل بعد كل هذه السنين : ترى كيف سيصبح حال العرب لو أخذوا بتحذير اللواء خطاب وقاموا بضربة إستباقية للحشود الاسرائيلية وهم يمتلكون آلاف الطائرات الهجومية وآلاف الصواريخ وملايين العسكريين؟ الم ستتحول ( نكبة حزيران ) الى (نصر حزيران ) ؟؟؟
امين عام الجامعة العربية في حضرة خطّاب ..
ان مقال اللواء خطاب سيبقى ، نبؤة صحفية ، عسكرية عراقية بأمتياز ، لم نشهد لها مثيلا طيلة القرن العشرين ... وهذه " النبؤة " تحسب للصحافة العراقية وللعسكرية العراقية ، كونها تؤشر إدراكاً عالي المستوى وقراءة واعية للأحداث ، في وقت كانت الصحافة العربية تغط في سبات النقاشات و الـ" العنتريات " المملة كما كان الساسة العرب يتبارون بأطلاق التصريحات العصماء ويعيشون في خدر الوعود التي تسربها هذه الدولة الشرقية وتلك الغربية ..
كانت الصحافة العراقية ، تقرأ ما خلف الاحداث ولم تلهث وراءها وقدمت للامة إنموذجا هو وجود "صحيفة عراقية جريئة تنشر مقالا ، لم يوافق على نشره رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء.. وهذه الصحيفة هي ... " العرب "
ويجرني الحديث عن المقال " النبؤة " الى واقعتين تتعلقان بالموضوع نفسه ، تفصل بينها بضعة أيام وكنت في الإثنتين احد شهودهما.. الواقعة الاولى هو ما جرى في " مؤتمر وزراء الخارجية العرب " الذي افتتح في بغداد يوم 5 حزيران 1967 وفي أثنائه اندلعت الحرب حيث صاح الوزراء امام الصحفيين وبصوت يكاد يكون واحدا... ( الله اكبر .. الصحف في العراق تعرف بتوقيت العدوان والجيوش العربية لا تعرف ) وهم بذلك يشيرون الى جريدة " العرب " ومقال اللواء الركن خطاب ..
والواقعة الاخرى هو مجيء السيد " عبد الخالق حسونه " الامين العام للجامعة العربية الى بغداد بعد بدء العدوان بأربعة أيام ( 9 حزيران ) وحلّ في فندق بغداد وفي جلسة حوار صحفي معه اجريناه انا والزميل مظهر عارف بحضور ممثل عن دائرة " التوجيه المعنوي " بوزارة الدفاع العراقية الملازم " عبد الزهرة الربيعي " طلب السيد حسونة ان نقفل جهاز التسجيل ونذهب معه الى اللواء الركن محمود شيت خطاب .. وفعلا ذهبنا دون ان يخبر مرافقيه .. وما ان وصلنا بيت اللواء وسط ظلمة التعتيم الاحترازي ،إستقبلنا بترحاب مشوب بالحسرة ، حتى بادر الامين العام للجامعة العربية بتقبيل رأس اللواء خطاب قبل ان يصافحه بكفه بحرارة وإحترام كبير قائلا له امامنا : تقبل منا الاحترام والاعتذار يا رمز العرب .
ودخل الاثنان بعد ذلك ، وهما يعرفان بعضهما منذ سنوات في جدال وحوار وتلاسن وعتاب .. لا مجال للاشارة الى مضمونه الان !
ان الزهو يعتريني ، وأنا اقدم هذه الاستذكارات ... كوني قرات معلومة بالغة الخطورة ، قبل الجميع ، وهي معلومة هزّت عالمنا العربي ولا زالت تداعياتها تمور في وجداننا ... معلومة صادقة لإنسان، فذ، من طراز خاص ، عاش في زمان غير زمانه ..
الرحمة لرجل الستراتيجية اللواء الركن محمود شيت خطاب والرحمة لجريدة " العرب " التي قتلتها رصاصة المؤسسة العامة للصحافة التي صدر قانونها في أعقاب الخامس من حزيران 1967 وكأنه عقوبة على الصحافة العراقية التي حملت إحدى صحفها يوما، خبراً " نبؤة" هو الاول من نوعه ولم يتكرر على الصعيد العربي والعالمي طيلة قرن كامل لكن دون ان يلتفت اليه احد او يحظى بالدراسة الموضوعية.
هذه هي احدى صفحات تأريخ الصحافة العراقية .. لقد كانت على مر العصور كصائح في واد ، ونافخ في رماد !!