فقَد آثَرتُ أَن أَسْأَلَكَ بِاسمِ المَحَبَّةِ سُؤَالَ بولُسَ الشَّيخِ الكَبير الَّذي هو الآنَ مع ذلِك سَجينُ يسوعَ المسيح. أَسأَلُكَ في أَمْرِ ابنِيَ الَّذي وَلَدتُه في القُيود، أُونيسِمُسَ أَرُدُّهُ إِلَيكَ، وإنما أرد قَلْبي نفسه. وكانَ بِوَدِّي أَن أَحتَفِظَ بِه لِنَفْسي فيَخدُمَني بَدَلاً لَكَ في تِلكَ القُيودِ الَّتي أَحمِلُها مِن أَجْلِ البِشارة. غَيرَ أَنِّي لم أَشَأْ أَن أَفعَلَ شَيئًا مِن دونِ رِضاكَ لِكَيلاَ يكونَ مِنكَ الإِحْسانُ كَرْهًا، بل طَوعًا. ولَعَلَّه لم يبتعد عَنكَ حينًا إِلاَّ لِيعودَ إِلَيكَ لِلأَبَد، لا لِيَكونَ عَبْدًا بَعدَ اليَوم ، بل أَفْضَلَ مِن عَبْد، أَي أَخًا حَبيبًا، وهو أَخٌ حَبيبٌ جِدًّا إِلَيَّ، فما أحراك أن تعده كذلكَ، سواء في صِلَةٍ بَشَرِيَّةٍ أم صِلَةٍ في الرَّبّ. فإِن كُنتَ تَراني شَريكًا لَكَ في الإِيمان، فاقبَلْه كما تقبلني.
إنجيل القدّيس لوقا .33-25:14
في ذلك الزَّمان: كانت جُموعٌ كثيرَةٌ تَسيرُ مَع يسوع فَالتَفتَ وقالَ لَهم: «مَن أَتى إِلَيَّ ولَم يَرغب على أَبيهِ وأُمِّهِ وامَرأَتِه وبَنيهِ وإِخوَتِه وأَخواتِه، بل على نَفسِه أَيضًا، لا يَستَطيعُ أَن يكونَ لي تِلميذًا ومَن لم يَحمِلْ صَليَبهُ ويَتبَعْني، لا يَسْتَطعُ أَن يكونَ لي تِلميذًا. فمَن مِنكُم، إذا أَرادَ أَن يَبنِيَ بُرجًا، لا يَجلِسُ قَبلَ ذلِكَ ويَحسُبُ النَّفَقَة، لِيَرى هل بِإِمكانِه أَن يُتِمَّه، مَخافَةَ أَن يَضَعَ الأَساسَ ولا يَقدِرَ على الإتمام، فيأخُذَ جَميعُ النَّاظِرينَ إِلَيه يَسخَرونَ مِنه ويقولون: هذا الرَّجُلُ شَرَعَ في بِناءٍ ولَم يَقْدِرْ على إِتْمامِه. أَم أَيُّ مَلِكٍ يَسيرُ إِلى مُحارَبَةِ مَلكٍ آخَر، ولا يَجلِسُ قَبلَ ذلك فيُفَكِّرُ لِيَرى هل يَستَطيعُ أَن يَلْقى بِعَشَرَةِ آلافٍ مَن يَزحَفُ إِلَيه بِعِشرينَ أَلفًا؟ وإِلاَّ أَرسَلَ وَفْدًا، مادام ذَلك المَلِكُ بعيدًا عنه، يَسْأَلُه عن شُروطِ الصُّلْحِ. وهكذا كُلُّ واحدٍ مِنكم لا يَتَخَلَّى عن جَميعِ أَموالِه لا يَستَطيعُ أَن يكونَ لي تِلْميذًا.
يوحنّا كاسيان (حوالى 360 - 435)، مؤسّس دير في مرسيليا المحاضرات، الرقم 3 التَخَلّي عن جَميع الممتلكات
وفقًا لتقليد الآباء وسلطة الكتاب المقدّس، يطال التخلّي ثلاثة مجالات... المجال الأوّل يختصّ بما هو مادي، فيجعلنا نحتقر كلّ الثروات والممتلكات الدنيويّة. المجال الثاني يجعلنا نرفض طريقة عيشنا السابقة، فنتخلّى عن الرذائل وأهواء النفس والجسد. والمجال الثالث يجعل روحنا تتخلّى عن جميع الحقائق الراهنة والمرئيّة لكي نتأمّل بالحقائق الآتية ولئلاّ نرغب سوى في الحقائق غير المرئيّة. علينا التخلّي عن هذه الأمور الثلاث، كما أمر الربّ إبراهيم، عندما قال له: «انطلق من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك» (تك12: 1).
قال الربّ في المقام الأوّل: «أترك أرضك»، وهذا يعني أترك ثروات الأرض. وفي المرتبة الثانية: «أترك عشيرتك»، وهذا يعني العادات والرذائل الماضية التي انطبعت فينا منذ مولدنا حتّى أصبحت مرتبطة بنا بشكل وثيق بنوع من القرابة. وفي المرتبة الثالثة: «اترك بيت أبيك»، وهذا يعني التخلّي عن كلّ ما يقع عليه نظرنا في هذا العالم...
فلنتأمّل كما قال بولس الرسول «ليس بما يًرى، بل بما لا يُرى. فالذي يُرى إنّما هو إلى حين، وأمّا ما لا يُرى فهو للأبد» (2قور4: 18)...؛ «أمّا نحن فموطننا في السموات» (فل3: 20)... سنخرج إذًا من منزل والدنا القديم، ذاك الذي كان أبًا لنا منذ مولدنا وفقًا للإنسان القديم، عندما «كنّا بطبيعتنا أبناء الغضب كسائر الناس» (أف2: 3)، وسنتوق بروحنا إلى الأشياء السماويّة... فترتفع أنفسنا إلى العالم غير المرئي من خلال التفكّر المستمر بأمور الله والتأمّل الروحي