الرباط- العرب أونلاين- عبد الدّائم السلامي*: كان دليلي إليها قلبي فقطْ دون سواه. سكنتُ الدّارَ البيضاء ساعاتٍ فلم تسكُنْ إليَّ، قلتُ أخرُجُ منها أتبعُ الشاطئَ نحو منابعِ الضّوءِ ونَواتئِ الجِبالِ. ولأنّي أخافُ الدَّهشةَ، دعوتُ أصحابي إلى اصطحابي في طريقي إليها حتى أكونَ جَمْعًا مُفْرَدًا فلا أتيهُ. أحسَسْتُ كأنّ رِغبةَ السيّارة التي تقلّني إلى المدينة تفوقُ رِغبتي في تعرِيةِ الأرضِ وطيِّها. وأظنّ أنّ عبد الله المتقي وعبد الواحد كفيح وعزّالدين الماعزي واسماعيل البويحياوي وأحمد شِكر، وهم من أَنْفعِ الحَكَّائين الجَوّالين بالمغرب، قد تواطؤوا عليَّ مع شهواتي في الترحُّلِ ومُمَاهاةِ الماءِ في جريانِه بعيدًا.
* اخلعْ نَعْلَيْكَ إنّكَ تدخلُ آزمور على بُعْدِ ثمانين كيلومترا من الدّار البيضاء، وبعد أن تكون قد عرّجتَ يمينًا على مدينة الجديدة بمسافة سبعةَ عَشَرَ كيلومترًا، تقفُ بكَ الطّريقُ على جسرِ وادي الرّبيع. واد ينبع من عُيونٍ باكِياتٍ في الأطلسِ المتوسِّطِ ويَصُبُّ دَمعاتِها في أعماقِ المحيطِ الأطلسيِّ مثقلةً بأحلامٍ تُشبِه أحلامَ المعتمد بن عبّاد "ما الذي ذكَّرني به الآن؟". من الجسرِ تتجلّى مدينةُ آزمور صبيّةً تأكلُها لهفةُ لقيا زائِرِها دافئةٍ أنْ "عَرِّجْ عليَّ ولنْ تخيبَ ظنونُكَ..".
ولمّا سألتُ أحدَ سُكّان آزمور العارِفين بتاريخِها، عن معنى التسميةِ أجابني بأنّها تعني فيما تعني الزّيتونَ البَريَّ. يا الله، قلتُ هامِسًا، الزيتون البريُّ لا يُعْصَرُ مثلي تمامًا وسكتُّ وفي نفسي شيءٌ من رائحةِ الزيتونِ في تونس. بعدَ جسر وادي الربيع حيث تُغطي نواحيه أشجارُ الطرفاء والعليق، ينتابُكَ خَدَرٌ وأنت تترقّى مدارجَ ترابيّةً بَضَّةً تحمِلُكَ إلى المدينةِ كما لو كنتَ تطيرُ في الهواءِ إلى السماءِ. قلتُ: عليَّ أنْ أخلعَ نَعْلَيَّ قبلَ دخولِها حتى تبتلَّ فيها شهواتي بالطُّهْرِ.
وإذْ تبلُغُ القلعةَ البرتغاليّة بأسوارِها العالية، يمتلئُ صدرُكَ بشميمِ التاريخِ. هذا "بابُ الفوقاني" يدعوكَ إلى التخييلِ: لا شكّ، قلتُ هامِسًا لعبد الله المتقي، في أنّ عاشِقَةً واعدتْ محبوبَها، فتأخّر عن موعِده، فانغلَقَ البابُ دونَه، فبكى، وبكتْ وباتَتْ تأكلُ جمرَةَ روحِها حتى الفجرِ، فَرَدَّ: هذا هو الحُبُّ البرتغاليُّ..
* دروبُ الدّهشةِ دروبُ آزمور ضيّقةٌ ذاتُ نقوشٍ وزخرفةٍ تجعلانِكَ تسبُّ الإسمنتَ وتلعنُ الحديدَ على غرارِ زينةِ الأبراجِ والأبوابِ والزوايا وحيطانِ المساجد فيها. فهذا برج "الوسطى" وهناك برج "الحفير" وغير بعيد عنها يوجد برج "سيدي وعدود" ولو التفتَّ يمنةً لوجدتَ برج "الأوسط" وبرج "فندق الحناء" وبرج "الطاحونة"، وهي أبراجٌ كأنّما هي أبراجُ برتقالةٍ مليئةٌ بشرابِ العسلِ التاريخيِّ.
وتجمع بين الأبراجِ دروبٌ تلتوي كالشَّهواتِ حميمةً تكادُ تبوحُ بهَسيسِ خَفَقانِ قلبَيْن في ليلةٍ مظلمةٍ بقيَ رَجْعَ صَدًى بين الجدرانِ لا ينقطِعُ كأنّه دعاءُ راهِبٍ جاوز الأربعين. دروبٌ تجولُ بكَ سَهْوًا بين حيِّ "بنكيران" و"درب الشوّاي" و"أمّ الربيع" و"شعبان الفهري" و"الحفرة" وغيرها. وهذي غُرفٌ شاهقاتٌ ذات شبابيكَ منسوجةٍ بالخيزرانِ تتدلّى منها أسرارُها مفتوحةَ الأزرارِ سِرًّا يفضَحُ سِرًّا وأحيانًا ترى بعضَها يسقُطُ سهوًا كالرّطبِ في حِجْرِ صَبيّةٍ تعجِنُ خُبْزَها بماءِ الوردِ وأحيانًا أخرى ينطُّ سِرٌّ إلى جمعيّة "دار المعلمة" حيث تجهرُ لكَ الفنانة التشكيليّة العصاميّة فاطمة بن تَرْمون، وهي تدعوكَ إلى فنجانِ "أتايْ" بغضبِها من المسؤولين عن قطاعِ الفنونِ التشكيليّة والحِرفيّة بالمدينةِ الذين لم يُساعدوها على تحقيقِ أحلامِها الفنيّةِ فالتمست المساعدةَ من المركزِ الثقافي السويسري الذي شجّعها بتمكينها من فتحِ معرِضٍ لها ولأمثالِها من المبدِعاتِ المغربيّاتِ المنسِيّاتِ ما ساهم في نفضِ الغُبارِ عن أعمالِهنَّ وعرَّفهنَّ إلى الجمهورِ ومكّنَهنَّ من وسيلةِ عيشٍ كريمٍ.
* ذاكرةُ النِّسْيانِ وأنتَ تقفُ في قلبِ المدينة القديمةِ تشعُرُ بأنّك واقفٌ في سُرَّةِ الأرضِ حيث تجلِسُ آزمورْ فوق هضبة سهلةِ التضاريس ترتفع عن مستوى البحرِ خمسةً وعشرين مترا وتمتدُّ على مساحةِ خمس مئة وأربعين هكتارًا ويُتَعْتِعُ فيها العِشْقُ أربعين ألف نسمة من عبادِ الله الصّالِحينَ والصالِحاتِ.
تُعدُّ مدينةُ آزمور، وفقَ ما توفّر لنا من وثائق تاريخيّةِ، من أعرق المدن العالمية حيث صنّفها بعضُ المُؤرخين من حيثُ قَدَامتُها بأنها ثالثُ مدينة في العالم ويضعها البعض الآخر في المرتبة السابعة عالميا ما جعل غموضًا يكتنفُ نشأةَ هذه المدينةِ حيث تروجُ في شأنِها أقاويلُ تُرْجِعُ تاريخَ نشأتِها إلى ما قبل الميلاد إبّان الغزو الفينيقي. ويذهب بعضُ أهلِ التاريخِ إلى القول بأنّ القرطاجيين هم أولُ من اكتشفها وكان ذلك بواسطة رحّالة يُدْعى "حانون" كان قد دخلها من خلال النهر الكبير الذي بضواحيها وهو نهرُ "أم الربيع".
كما ورد اسم آزمور ضمن أخبار المؤرخين العرب في القرن التاسع الميلادي. وهي حقبة كان الخوارج والأدارسة يستولون فيها على الحكم بالتداول ما قوَّلَ أحدَ المؤرِّخين بأن المدينة أُعْطِيتْ إلى عيسى بن إدريس أثناء تقسيم المملكة الإدريسية. وحوالي عام 1067م استقر بها المرابطون حيث عاشَ في أواخر عهدهم أهمُّ رجالات المدينة أمثالَ مولاي أبي شعيب الذي أصبح وليا صالحا حاميا للمدينة إلى حدودِ عام 1488م. وقد دخلها البرتغاليون محاولين السيطرة عليها لكنهم فشلوا أمام مقاومة سكانها الشرسة التي امتدّتْ إلى حدود سنة 1513م حيث أجبروا البرتغاليّين على مغادرتِها بعد احتلالٍ دام تسعًا وعشرين سنةً.
جاء في كتاب "معيار الأخيار" ص 76 لصاحبه لسان الدين الخطيب الذي عاشَ خلال القرن الرابع عشرَ ميلاديًّا قولُه في مدينة آزمور وأهلِها: "قلتُ: فآزمورْ؟ قال: جَارُ وادٍ ورِيف، وعروسُ ربيعٍ وخَريف، ذو وضْعٍ شريف، أطلت على واديه المنازه والمراقب، كأنها النجوم الثواقب، وجلت من خصبه المناقب، وضمن المرافق نهره المجاور، وبحره المصاقب. بلدٌ يخزِنُ الأقوات ويملأ اللَّهوات، وباطنُه الخيرُ وإدامُه اللحم والطيرُ، وساكنُه رفيه ولباسُه يَتَّّحِدُ فِيه، مَسْكَنُه نبيه وحوتُ الشابل ليس له شبيه، لكنّ أهلَه ... بربريٌّ لسانُهم، كثيرٌ حِسَانُهم...".
* فَقْرٌ يَسيلُ على الطُّرُقاتِ تمثل نسبة الفقر بآزمور ما يزيد عن 70 % وِفْقَ إحصاءات غير رسميّةٍ. ولا يتجاوز معدَّل الدخل الفردي لسكّانها 30 درهما. وهو أمرٌ يجعل مدينة آزمور مليئةً بمجموعةٍ من المظاهرِ الاجتماعيّةِ السلبيّة مثلَ التسول وتنامي عددِ أطفال الشوارع وكثرةِ المشرَّدين والصبايا الواقفات أمامَ البيوتِ ينتظرنَ العَطاشى من الذُّكورِ إلى مائِهنَّ. وهي مظاهر قد تُشوِّه فضاء المدينة الطّاهرِ وتخدِشُ حياءَ زائريها وتخلق في أذهانِهم مُفارقةً بين سوءِ واقع المدينة ونضارةِ تاريخِها.
فملامحُ الواقع المعيشِ تُعاكِسُ حالَ المدينة وأهلها التي نُلْفيها في وصف الشريف الإدريسي لها في كتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" حيث ذَكَرَ أنّ سكانها كانوا يقاومون الوحوش بطريقة غريبة حيث يتجرّدون من ملابسهم ويلفّونها على أذرعهم ويغطونها بشوك السّدرة ثم يهجمون بسكاكينهم على الضواري حتى صارت هذه الوحوش تهابهم وتخشى ملاقاتهم. ويُضيفُ "آزمور على وادٍ كبيرٍ خَرَّارٍ يُجَارُ بالمراكب سريعُ الجريِ كثيرُ الانحدار كثيرُ الصخور والجنادل.
وبهذه القرية ألبانٌ وأسْمَانٌ ونِعَمٌ رَغْدَةٌ وبها بَقُولٌ ومزارعُ القَطَاني والكَمُّون". وقد لفت انتباهَنا عدمُ تنبّه أولي الأمر فيها مثل المجلس البلدي والسلطات المحلية والإقليمية إلى تبصيرِ المواطنين بضرورةِ الحفاظ على جمالياتِ فضائهم الاجتماعيِّ بما يُمَكِّنُ من تجاوز كلِّ ما من شأنه أن يُشوِّه المدينة ويسلُبها سحرَها. إذْ ما تزال آزمور مدينة منسيّةً كما لو كانت نابتةً في التاريخِ، فلا صناعة ولا تجارة ولا ترشيدًا للفعل السياحيِّ فيها عدا بعض الاجتهادات الفرديّة التي تتغيّا إعادةَ تأهيل المدينةِ ببعثِ مجموعة مشاريع صغرى قد تُعيدُ بهاءَها وحيويّةَ سكّانِها وتُحبِّبُها إلى زائريها بما يجعلها فضاءً تاريخيًّا قد يجلب انتباهَ اليونسكو فتصنِّفُها ضمن محمياتِها من المدنِ العتيقة في العالَمِ.
* الحواسُّ بأسرِها في طَبَقٍ لمدينة آزمور عاداتٌ خاصّة في الطبخِ، فهي ما تزالُ المدينةَ التي تستلُّ عاداتِ نهارِها من خوابي إرثِها الحضاريِّ. وهو أمرٌ يجعلُ زائرَها يخرُجُ طواعيةً من إهاباتِ حاضِرِه ويدخل فيها بريئًا من تلويناتِ الحداثة وأقانيمِ العولمةِ ويأكل في أفرانِ أزقَّتِها التقليديّةِ رغائفَ الخبزِ الساخنةِ التي كان يظنّها، لوفرة المخابز العصريّة وكثرة الخبز الإفرنجيّ، موجودةً فقط في توصيفاتِ الإخباريّين والرحّالة العربِ.
ويُعدُّ "الكُسْكُسي" الطّبقَ الأهمَّ بالنسبة إلى المطبخِ الآزموريِّ على غرار باقي المدن المغربيّة، وهو طبق متنوّعُ العناصر يجمع بينَ الخضر بأنواعِها ولحمِ الضّأن والزّبيبِ وأشياءَ أخرى غلبَنا حياءُ كَرَمِ الضِّيافةِ، بل لعلّه الذّوبانُ الصوفيُّ في المأكولِ، من البحثِ فيها والتساؤُلِ حولَها. ولكنّ الأكيدَ أنّ للنسوة الآزموريات طرائقَ عديدةً في إعدادِ هذه الأُكلة التي تُطهى بعنايةٍ فائقةٍ لأنّها، من منظور العادات الاجتماعيّة، أُكلة الضيوفِ وطبقُ المناسباتِ الكبيرةِ.
ولعلّ ما ينمازُ به طبق الكسكسي الآزموريِّ هو خُلوّه من البهاراتِ حتى أنّك تعجبُ وأنتَ تأكلُه من تزاوج أَليفٍ بين طعْمَيْن متنافِريْن: مالِحٍ وحُلْوٍ، ذلك أنّ النسوةَ يعمَدْنَ في إعدادِه إلى خبرةٍ تراثيّةٍ اكتسبنَها منذ الصِّغِرَ عن جدّاتِهنّ، فترى الواحدةَ منهنّ تتصبَّرُ ببعضِ الأهازيجِ البدويّةِ لتُمكِّنَ حرارةَ النّارِ الهادئةِ من التَّغلغُلِ في مفاصِلِ الخضر واللحومِ بتؤدةٍ يساعدُها في ذلك بعضُ الزعفران فتسلُبَ منها صلابتَها لتظلَّ هشّةً صفراءَ تخالُها العسلَ في الأفواهِ.
وبعدَ أن يُطهى المَرَقُ "الرَّواءُ" تكون حُبيباتُ الكسكسيّ قد اخترقها بخارُ الماءِ ولانتْ شكيمتُها، فتوضعُ في صحنٍ من الفَخّار كبيرٍ ويُسكبُ عليها المرقُ بلُطفٍ حتى يتشرّبه عجينُ الكسكسيِّ ويوضع الصحن فوق مائدة وتوضع على المائدة ملاعقُ لمَنْ لا يُريدُ أن يغرِفَ لُقَمَ الطبيخِ بيدهِ. والظّاهرُ أنّ طبقَ الكسكسيّ الآزموريّ لا تحصلُ لذَّتُه إلاّ متى تعاضدت عليه حواسُّ الإنسانِ كلِّها من شمٍّ لرائحة المرق ولمسٍ باليدِ وتذوُّقٍ عفيفٍ باللسان وسمعٌ رهيفٌ لانثيالِ جبالِ الكسكسيِّ في وسطِ الصحنِ ورؤيةٍ لكلِّ هذا دقيقةٍ فاحصةٍ.
* سيدي "أبو شعِيب" يكفي أن تميلَ يسارًا من مدخلِ آزمور حتى تَنْوَجِدَ في شارع مليءٍ بمحلاّتٍ صغيرة تبيع كلَّ شيءٍ: الملابس والعطور والألكترونيات والبخور واللحم والخضر والصحف والخبز والنعناع النابت في أيدي صبايا يبتسمن للزائر بالمجّان، شفيفات لطيفات فيهنّ غنج ودلال ورغبة في التواصل بجميع لغات بني آدم. وكلّما تقدّمتَ في الشارع كلّما أحسستَ برهبة المكانِ تلفّك من جميع الجهات، بل وتشعر بشيءٍ من الخفّة حتى تكاد تظنّ جسدَك من هواءٍ أو من عجينِ النُّورِ.
ويزداد الشارع اتساعًا وابتعادًا عن قلبِ المدينة باتجاه الخَلاءِ أو هكذا تخالُ الأمرَ. حتى يقف بك أمام بيتٍ من بيوتِ أولياء الله الصالحين، إنّه مقامُ "سيدي بوشعيب" الذي يُقال إنّه فقيه بغداديّ ضرب في الأرضِ عميقًا حتى بلغ آزمور فابتنى له زاوية هناك يعلّم فيها القرآن وأصول الفقه ويدعو منها أتباعَه إلى مقاومة المستعمرين وغزاةِ البحر من بلاد الإفرنجة. وما إن تدخل مقام سيدي بوشعيب حتى يدغدغ أنفَك شميمُ البخور الممزوج بشميمِ الشهواتِ الممزوج بشميم الدّعوات الصالحات والدّعاء الأخضرِ.
الفضاء كبير: في وسطه ضريح الوليّ مزدانًا بأردية خضراء، وحوله يدور الزائرون حفاةً ذكورًا وإناثًا دورانًا فيه كثيرٌ من الرّجاءِ وكثيرٌ من الدّعاء الصامتِ وكثيرٌ من الحيرةِ. وفي ركنِ من هذا الفضاءِ، تجلس مجموعةٌ من الشبّان الأنيقين ينشدون أغانيَ صوفيّة يمجِّدون فيها أولياء الله بإيقاعٍ يدفع إلى رقص مجنونٍ. وحولهم تتربّع مجموعة من النسوة مخضَّبات الأيدي بالحِنّاء وذوات عيونٍ كَحيلاتٍ كأنّما هي شبابيك مفتوحة على الجنّة وهنّ يتمايلن من الطّربِ الرّوحيِّ.
سجّلتُ أناشيد الفتيةِ ووضعتُ لهم في إناءٍ فخّاريٍّ موجودٍ بينهم بعضَ ما عندي من دولارات، فمسك بيدي أحدُهم وأجلسني بينهم وراحوا يُمطرونني بالدّعواتِ الصالحاتِ ختموها بقراءة آياتٍ من القرآن. وأعترِفُ بأنّي صرتُ وقتَها خَمْرانًا خَدِرًا بما استمعتُ إليه من نشيدٍ صوفيٍّ امتزج بالذِّكرِ الحكيمِ، فكدتُ أرْقُصُ لكنّي تمالكتُ روحي وسألتُ أحمد شكر: لِمَ يزورُ الناسُ مقام سيدي بوشعيب؟ فسردَ لي حَكايا عجيبةً غرائبيّةً تبلغ درجةَ اللامعقول حولَ قُدرة هذا الوليّ الصالح على تمكين النسوة العاقِراتِ من الإنجابِ. وعلاقتِه بوليّة صالحة تُسمّى "لَلاَّ عائشة" يقع مقامُها بالقرب من منطقةِ سيدي رحّال من ناحية البحر وهي مزارٌ لنوعٍ ثانٍ من النسوةِ اللواتي انسكبتْ ألبانُ قواريرهنَّ هدرًا وبالمجّانِ وفاتَهنّ قطار الزواجِ، ولم تَبقَ فيهنَّ غير القدرةِ على التمنّي.