الدولة : الجنس : عدد المساهمات : 61353مزاجي : تاريخ التسجيل : 21/09/2009الابراج : العمل/الترفيه : الأنترنيت والرياضة والكتابة والمطالعة
موضوع: بنزرت التونسية .. تأمل في متون المدينة الأحد 27 يونيو 2010 - 4:07
بنزرت أرض الجلاء وفتنة لا تقاوم
</TD>
بنزرت التونسية.. تأمّل في متون المدينة
تونس- العرب أونلاين- طارق الطوزي: لا الهندسة ولا نظم الحساب يمكن أن تحتوي بهجة أو سرّ فضاء أرض الجلاء بالجمهوريّة التونسيّة. إنني في كلّ حين أكتشف في هذا المدى فتنة جديدة، حتّى و إن تلبّسَتْ رداء قديما موقّرا.
تشرق صوري هنا من تلعثم الطفولة، وتمتدّ فتشمل المعنى من وحي لعنة التبدّل وعنفوان كبرياء الشباب. ببساطة، أتوّهم أنّي أمتلك فضائي، أرسم ملامحه، أعرّف حدّه، وفضلا عن هذا قد أتحدّث بشيء من الجديّة عن متون تستبطن المدينة؛ تلك المتون هي مقومات الفضاء الخصوصيّة كما أراها، صفات حيّة صادقة تخترقني و تشدّني إلى هذه الأرض ومحيطها. قد أستغرق في تفاصيل يعتبرها البعض مهملة، لا تستقيم بمنظار العادة، ولكنّها معان لا يصحّ المشهد عندي بغير ثرثرتها ولغوها الشقيّ.
المتن الأوّل: بلغنا أيّها الملك الرشيد أن البكري "432هـ-487هـ" قال في مؤلفه "المسالك و الممالك": "وفي هذه البحيرة أعجوبة، يقصد بحيرة بنزرت، وهي أنّ الصياد إذا أتاه البحّار لشراء الحوت، يقول لهم: على أيّ شيء أرسل شبكتي؟ فيتفق معهم على عدّة معلومة، فيأتي الصيّاد بحوت يقال: إنّه أنثى الصنف المعروف بالبوري، فيرسلها في البحيرة ثم يتبعها بشبكته فيخرج العدّة التي اتفقوا عليها، لا يكاد يخطئ". لم يكفن الاقتصار على ما تبيّنت سماعه، فآثرت البحث في النصوص القديمة عن ذكر آخر، ليرِدني أيّها الملك الصالح أن الزهريّ "عاش 532هـ" قال في "كتاب الجغرافيا" في معرض الحديث عن بنزرت: "ومن عجائب هذه البحيرة أنها يصاد فيها حيتان يقول عنها الصيادون إنّها إناث ذلك الصنف. فيوثق منها في السنانير في الأخياط ثمّ ترمى في البحر فيجيء الحوت عليها فترمى عليها الطراريح فيؤخذ من الحوت شيء كثير وهذا من أعجب الأشياء".
أي عجيبة تلك؟ إنّها مازالت تحضر الآن بترف ولكنها تبدو ساذجة حيث تظهر عند طبقة مستضعفة فتبرز كوحي لا يُذكر. وكان الأصحّ، على ما أعتقد، أن يُرى في مشهد الصيد بأنثى البوري دلالة حمولة لمعان عميقة تبشّر بغموض آسر.
في كتاب "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات" يذهب القزويني للقول في حدّ العجيب: "حيرة تعرض الإنسان لقصوره عن معرفة سبب الشيء وعن معرفة كيفيّة تأثيره فيه". وهذا الطقس من الصيد في بنزرت بملامحه العجيبة كما تمثلتها دائرة المعارف الجغرافيّة الإسلاميّة قد ولّد في متقبّله قديما حيرة بلا سبب معلوم، فضلا عن جهل بطرق تأثيره على الذات. تلك العجيبة التي تحضر الآن في دوائر مهمّشة على مشارف البحر تشعرك بتيه غامر، إنك تتّشح بالمدهش المتجدّد، غير مدرك على نحو ما فتنة ما يعتمل في نفسك أمام هذا المشهد.
لطالما فكّرت، أيها الملك السعيد، أن هذا المذهب من الصيد يرجع لنهج فكري قديم أو معتقد منسي، انحسر، فبقيت آثاره تبشّر بعلويّة الأنثى. بل أعتقد، على نحو جنوني، أن خلف الطيف الحاضر لأنثى البوري وهي تستقطب الذكور لحقول الرغبة والموت ثمّة سرّ مقدّس غامض. لهذا، تأكّد يا صديقي بأنك ستجد في كلّ درب من دروب المدينة العتيقة شهرزاد أخرى وهي تبحث عن كيانها وقيامتها وخلاصها عبر تنسّم عبق الأنثى الأزليّة القابعة في روح هذا الفضاء.
المتن الثاني: في البدء كانت "هيبون دياريتوس" أو "هيبو زاريتوس"، ثم عرّب نطقها إلى بنزرت. الكلمة في صيغتها الأصلية تعني هيبون التي يشقّها الماء، فالماء يعبر المدينة من خلال قنال تاريخي يربط البحر بالبحيرة. القنال إذن، حايث معنى اسم المدينة ليلازمها على مدار التاريخ. في كلّ صورة من صور اللحظة الآبدة لبنزرت القديمة كنت تتوقع ماء متحرّكا يكسّر ركود المكان أو صوت رقرقة خفيفة تنبعث من القنال لتسكن الذاكرة بحميميّة أو كنت تشهد رزقا يُختلق من رحم مائه ليُنشئ حياة.
هذا الفضاء كان يحتفي بالفصل، بعزلة الكائن داخل أرضه المحاطة بجدران مائيّة. وكانت هناك أرض داخل المدينة يحيطها البحر من جميع جهاته: إنها جزيرة الربع؛ أين احتفل السلف بشعريّة التوحّد والاعتكاف.
بفقه حربي مدمّر، وبوجاهة استهلاكيّة جشعة، قرّر المستعمر الفرنسي إقامة واستغلال ميناء تجاري يشرف على البحيرة. وبمقتضى هذا المشروع أُحدث قنال جديد عميق ومتّسع خارج المدينة وبالمقابل طمر القنال القديم. آل الأمر، في النهاية، إلى مدينة مجرّدة من قنالها التاريخي. هكذا تحوّل الفضاء إلى اتصال فاضح. غدا موضع القنال القديم كئيبا مشوّها؛ إنّك تشعر بجنائزيّة المقام متى قطعت خطواتك المربكة القلقة سطحه المصطنع. يتملكك إحساس باللاتوازن، ببؤس المسلك الحزين.
لكن نظرا لحيوية الميناء الفينيقي وبعده الوظيفي الهام لم يشمله الطمر بالرغم من كونه البوابة الأولى للقنال القديم. والآن، حينما تدلف بنزرت يشدّك هذا الميناء القديم باعتباره المعلم التاريخي الرئيسي للمدينة، ولكنّه في عرف سكّانها أعمق من مجرد ذاكرة؛ هو لمحة من فقد، حياة معادة لصخب وصال البحر والمدينة. آنذاك، ستفهم،لم هذا التعلّق البشري بتلك الرقعة البحريّة الآمنة: ليس في هذا العشق تظاهر أو زيف إنما هو استسلام مطمئنّ لمنبع الأصل. الراحة هنا تتحقق في التواصل الصامت ما بين نشيد الماء وشعرية الأصل الحالم.
المتن الثالث: في عمق تاريخ بنزرت يتشكّل تاريخ مواز موضوعه جسور المدينة المتعدّدة. في كلّ جسر ثمّة برهة إنسانية تبدع تواصلا نحو الآخر، وقد تعبّر أيضا عن انفتاح وتوق نحو الاجتماع. بيد أنّك تكتشف أن كلّ جسر في تاريخ المدينة يحمل خاصية قلقة؛ فهو لا ينتظم داخل ثبات الربط المعتاد؛ ولسبب ما يحتفظ بميقات الفصل. سأفسّر الأمر على النحو التالي: كانت بعض الجسور بالمدينة بدائية وقليلة العرض وبالتالي لا تحقّق وظيفتها على الوجه الأكمل "العديد من الجسور الخشبيّة التي كانت بالقنال القديم"، بعضها يثير المرور عليها الخوف حيث تهدّمت أجزاء منها "جسر باب تونس" في حين أن البعض الآخر يمثل مجرّد المرور عبرها مغامرة وتجربة مرعبة "الجسر المرتفع فوق القنال في الفترة الاستعماريّة".
إنّ المدينة وإن احتفت بتعدد وجوه التواصل عبر كثرة جسورها فهي تحتفظ بتوحّدها وتفرّدها، تنطلق إلى رحاب الاتساع وتلتزم بشعريّة العزلة.كلّ عائق يثير فيك نزعة نحو الحلم بحالة الانقطاع والتيه في مدى الذات. ترنو بحبّ إلى الآخر، وتعانقه بتسامح، لكنّك تؤثر أيضا التساكن داخل رداء التخيّل والاغتراب.
ليس في الأمر انغلاقا وإنما هو توق إنساني أسمى نحو الانفصال بمعناه الشعري. ولعلّ هذا ما جعل الخيار المعاصر للجسر الرئيسي بالمدينة ينحو إلى الوفاء لقيم الاتصال والانفصال تلك وفقا لروح الفضاء، فتكتشف وأنت تدخل المدينة عبر الطريق المؤدّي إلى العاصمة الجسر المتحرّك الذي يصل ما بين ضفتي القنال الجديد. في ظاهر الأمر يبدو سبب ارتفاع الجسر لمقتضيات مرور السفن، لكن الأصحّ عندي أن المدينة في تلك الحال تفسح المجال لذاتها بالعود إلى مقام التسامي والاعتزال. xtrx