يعقوب أفرام منصور قصدتُ، ذات يوم، ساحل البحر، وافترشتُ رملَه النقي، أحدّق في مداه السحيق، وأتأمّل قراره العميق، وأُمتّع ناظري بمشهد أمواجه الراقصة المتدافعة؛ وبعد تمعّنٍ قصير، بلغ مسمعي إنشادُه المهموس: أنا حبيبُ البرايا أنا ملاذ الخلائق شتى أصناف الورى تلقى بقربي المنى من سكونٍ وحنان من هدوءٍ وأمان وانشراحٍ وحبور وانفتاحٍ وسرور وانطلاقٍ وخيال وانعتاقٍ وجمال { { { { يجيئُني الحكيم والعالِمُ الفهيم والشاعرُ والحائر واليائسُ والثائر والبائسُ والخائر يجيئُني المقامِر والعاشقُ المغامِر ومُبدِعُ المناظِر والرابحُ والخاسر تجيئُني الخاطئات لترميَ أجسادَها وتُطمِسَ آثامها فأستُرَ عوراتها يأتيني أهلُ الصيدِ . أهل الألم أهل اللهوِ.. أهل الندَم يقصدُني أهل الزُهدِ أهل القلم أهل العِشقِ .. أهل الفنِّ فالكُلُّ عندي سَوَاءٌ ما يشتهي ويبتغي من إلهامٍ ومُتعَةٍ من أفكارٍ ورَوعةٍ من إخفاءٍ ونجوَةٍ من إيناسٍ ونشوَةٍ وتحليقٍ للشُهُبِ وتبديدٍ للنَصَبِ { { { { وفوقَ هذا وذاكَ تجارتي كثيرة وأرزاقي وفيرة وخيراتي غزيرة منافعي عميمة وكنوزي عظيمة أنا منشأُ الكائنات أنا مصدرُ اليابسات ليس ما يضاهيني في الوِسْعِ ليسَ ما يدانيني في العُمقِ هناكَ من يرهبُني وليس من يكرَهُني ! فلمّا وعيتُ هذا القدرَ من نشيد الدأماء المهموس، كان قرص الغزالة المتوهّج قد حُجِبَ نِصفُه وراءَ الأفق، فنهضتُ أخاطبُ البحرَ مُوَدِّعًا : سلامٌ عليكَ أيها البحرُ الحبيب سلامٌ عليك أيها الحُسنُ الرهيب لولاكَ لم يكن غيثٌ ولا كان انهِمار لولاكَ لم يكن برقٌ ولا كان اخضرار لولاكَ لم يكن خَلقٌ وعبيرٌ، وجمالٌ وأنغام لولاكَ لم يكن بعثٌ ونشور، ورمالٌ وأنسام بدونكَ كان العدَم، كان اليباب بدونكَ كان اليَبَس، كان الخراب منكَ المُبتَدَأ، فيكَ المنتهى أزليُّ الزمان، أبديُّ المكان، رمزُ الدهور سرمَدِيُّ الكيان، جاحِظيُّ البيان، يِلا لسان ! { { { { سلامٌ عليكَ يا نسمةَ الوجود سلامٌ عليكَ يا أقدمَ العهود أنت للأرض كالنفسِ العاقلة أنت للجُرمِ كالروح الناطقة أنت كالقلبِ مُرَوِّي المشاعِر أنت كالحبِّ غنِيُّ العواطف لأنتَ في الوِسعِ كالأفكار الطليقة لأنتَ في الغَورِ كالأرواح العميقة { { { { سلامي عليكَ أيها اليمُّ الحبيب سلامي إليكَ أيها الحُسنُ العجيب برقي من سحابِك غيثي من مياهِك مِلحي من عُبابك ، دمي من غيومِك فسلامي عليكَ يا روحًا لطيفًا وسلامي عليك يا وحيًا ظريفُا وسلامي إليكَ يا أمًّا عطوفًا وداعًا أيها البحرُ الرئيف وداعًا أيها اليمُّ اللطيف أيها الحُسنُ الباهر، أيها الموجُ الساحر أيها الساحلُ الساهر، أيها الهادئُ الثائر وداعًا… وداعًا من حبيب سلامًا … سلامًا من غريب! ــــــــــــــــــــــــــــــ [size="4"]كُتبت هذه السطور على الساحل اللبناني في جونيه في شهر آب من سنة 1963