لا يكاد يمر يوم في العراق بدون ان يطلق احد ساسة ‘العراق الجديد’، على اختلاف الدين والطائفة والعرق، صوته مناديا أو ملوحا بالتقسيم والانفصال وانشاء الاقاليم، وفي احسن الاحوال الفيدراليات. تطرح هذه الدعوات من منصة منصوبة على قارعة البرلمان، داخل المنطقة الخضراء، او احد مجالس الحكومة او القنوات التلفزيونية الناطقة باسم هذا الحزب او ذاك. مايجمعهم ظاهريا : هو الخطاب السياسي التزويقي الذي يدمع العيون لفرط وطنيته ووحدته الشاملة لكل العراقيين. ما يجمعهم عمليا : هو التهافت على نهش ما يستطيعون نهشه من اموال الشعب، واقتسام غنيمة النفط، وتوقيع العقود الوهمية لاستخلاص العمولة. ما يجمعهم عمليا هو دورهم كلصوص وسماسرة يتلحفون باسم الحكومة و’الديمقراطية’. ان فكرة تقسيم البلدان والامم ليست جديدة بل قديمة قدم فكرة الاستعمار باعتبارها افضل الطرق الناجعة لديمومة الاستغلال واضعاف الامم. كما ان وجود المتعاونين والاتباع على اختلاف خلفياتهم الثقافية والفكرية والاجتماعية ليست جديدة ايضا. فتاريخ الشعوب يؤشر بوضوح الى شخصيات تجد في الاستعمار كينونتها، وفي الخنوع تبريرا لذلك. ما هو جديد هو ما نشهده، حاليا، في البلدان العربية والاسلامية. حيث صارت الطائفية، اداة التقسيم والتفتيت، تباع كما هي وجبات ماكدونالد السريعة، بوصفة واحدة وبارخص الاسعار. وكان العراق سباقا في تذوق هذه الوجبة بمواصفاتها الامريكية البريطانية واصحاب امتيازها من الساسة العراقيين المحليين. تلاها افتتاح مطاعم الطائفية السريعة في كل البلدان العربية تقريبا. ولكي لا يقتصر اللوم على المحتلين والاستعماريين وشركات التسليح والنفط الاحتكارية، علينا التأكيد بان للباعة او للساسة من اصحاب الامتياز المحليين دورا لا يقل اهمية من اصحاب رؤوس الاموال. فلولاهم ولولا ترويجهم لبضاعة الطائفية المعروضة للبيع بتعبئة جذابة، لما نجح صاحب الانتاج الرئيسي في العراق، مثلا، يعمل باعة وجبات الطائفية السريعة، دعاة التقسيم والمحاصصة، بجد على ‘ تفكيك العراق باعتباره بلدا لصقه البريطانيون قسرا ‘أو الدعوة الى انشاء الاقاليم حماية للسنة من سياسة الحكومة الطائفية، اذ ‘لم يبق أي خيار إمامهم إلا خيار إقليم السنة’، وحماية الشيعة من استغلال الاكراد النفطي ولتخفيف التأزم بين حكومة بغداد الاتحادية وحكومة إقليم كردستان المحليـة عبر الاكثار من الاقاليم. دعاة التقسيم والتفكيك يملكون بدورهم، بتراتبية ملحوظة، اتباعا وحواريين، يتم تقديم الفتات اليهم بين الحين والآخر لضمان ولائهم. فلا هم يشبعون فيستغنون عن سيدهم ولاهم يجوعون فيثورون. في فئة الاتباع يقبع المثقف الرسمي (كاتب، شاعر، صحافي، فنان… الخ) بصوته المجلجل بحسنات السيد صاحب السلطة والمال. المتغني بجمالية ملابس الامبراطور العاري. المرتل بحمد الحاكم وقيمه الاخلاقية بينما تغطي يدا هذا الحاكم دماء لا تغسل. العازف في سمفونية للاحتفاء بمحتل حرق المكتبات ونهب المتاحف. هل تتذكرون كيف قام عازفو الفرقة السمفونية العراقية، بترتيب من باعة ماكدونالد المحليين، بالترفيه عن جورج بوش وكولن باول وبقية فريق الاحتلال الهمجي، في امسية موسيقية في واشنطن، بعد ستة اشهر من الغزو ولم يكن دخان حرق المكتبات والمعارض وتدمير الآثار قد هدأ بعد؟ المثقف التابع هو المبرر لغيبيات الظلام العقلي. الخانع بانتظار أجره لقاء خبر صحافي مدسوس أو راتب شهري يتصدق به تاجر صار يسمى مفكرا. الأدهى من المثقف الرسمي التابع هو المثقف الصامت. يرى القتل اليومي فيتظاهر بانه لا يرى، يسمع صراخ المعتقلين والمعذبين فيتظاهر بانه لا يسمع. أنه من اختار خرس الضمير طريقا يسلكه. وبين الاثنين، بين التابع والصامت، يقبع ‘ المتعاون’، الذي رحب وهلل وتعاون على تسهيل غزو وتحطيم بلاده، متظاهرا بالسذاجة (ألم يقرأ كتب التاريخ وما يفعله الغزاة عبر القرون؟ ) ليعود، بعد عشر سنوات من القتل والذبح والتخريب، صاحيا من خمرة التعاون، ملقيا اللوم على الغزاة أو، غالبا، على الشعب العراقي نفسه لأنه ليس مستعدا لفهم ثقافة الديمقراطية! ان من واجب المثقف، لكونه يمتلك البصيرة ليرى ابعد من الآخرين، ان يقول الحقيقة ويفضح الاكاذيب والزيف المضلل لبقية الناس. انه من يحفز على طرح التساؤلات والشك بما يقدم اليه باعتباره يقينا. فمن خلال التساؤل والبحث ورفض الخنوع يمكن للعقل الانساني، وبالتالي المجتمع، ان يتطور. هذا هو المنظور الذي نصبو اليه حول دور المثقف، وهو ما تربينا عليه منذ ان تعلمنا القراءة والكتابة وشرعنا، بدورنا، بالكتابة (والرسم والموسيقى والسينما … الخ) كطريقة للانتاج المعرفي والابداعي. غير ان هذه البديهية، المتعارف عليها، لا تبدو كذلك لبعض المثقفين العراقيين. انهم يفضلون اما الصمت او انتقائية الحديث لتكون النتيجة تلويث الحقيقة. قرأت، منذ ايام، عرضا لكتاب صدر، حديثا، عن حقوق الانسان بالعراق. اختار كاتب العرض، وهو روائي، ان يستخدم الكتاب كأداة للتذكير بالاجراءات القمعية التي مارسها نظام صدام حسين، منددا بصمت المنظمات الدولية في حينها. المفارقة في هذا النوع من الكتابات، وهي كثيرة، ولا تخلو منها صحافة الاحزاب المنطوية تحت جناح ‘العراق الجديد’ انها تساهم في تزييف الواقع من خلال انكاره او تجاهله او التركيز على جانب واحد من صورة كبيرة، بحيث يتم تضييع الحقيقة أو، بأحسن الاحوال، تلويثها. انها لأكذوبة فاضحة ان يقال بان المنظمات الدولية لم توثق وتدين جرائم النظام السابق. بل الحقيقة انها ادانت، احيانا، جرائم لم تحدث. أمامي، مثلا تقرير لمنظمة العفو الدولية تشير فيه الى انتهاكات حقوق الانسان في الثمانينات وتدين حكم الاعدام الصادر بحق ‘ العالم المعارض حسين الشهرستاني’. والكل يعلم ان حسين الشهرستاني حي يرزق بل ويحتل منصبا مرموقا، الآن، في حكومة يصف مجلس حقوق الانسان بالامم المتحدة حملة اعداماتها الشهرية بأنها ‘ وحشية وغير انسانية’. لماذا لم يقم الروائي، اذن، بذكر جملة واحدة عن هذه الاعدامات وعن غزو البلد وقتل ما يقارب المليون شخص من قبل قوات الاحتلال الانكلو امريكي؟ لماذا وجرائم الغزاة موثقة حتى من قبل قوات الاحتلال نفسها؟ لماذا يتجاهل شعراء وكتاب عراقيون جريمة العصر بينما يكتب الشعراء، من جميع انحاء العالم، مئات الآلاف من القصائد وترسم اللوحات وتنتج افلام الفيديو والافلام الوثائقية؟ لماذا التعامي والصمت والتبرير؟ هل لأنهم يلهثون وراء اجراءات الحصول على التقاعد الحكومي ويخشون خسارته ان نطقوا (وهو حق من حقوقهم المشروعة)؟ أم لانهم يدينون بالولاء المطلق لأحزاب تأسست على رد الفعل من النظام السابق وليس على حاجة حقيقية في المجتمع، واعلان الحقيقة سيخدش الولاء الحزبي؟ هل هو امتداد لمواقفهم في تأييد الغزو والاحتلال ولا يريدون ان يكتبوا مايمس ذلك الموقف ويفضحه؟ هل لانهم شردوا وعاشوا في المنافي؟ اذا كان الامر كذلك، ألم يحن الوقت للتخلص من الضغينة والثأر والانتقام، والدعوة الى تحقيق العدالة للجميع استنادا الى الحقيقة بدلا من دفع الناس الى التخلي عن الوطنية، والترويج المحموم لسياسة التقسيم باعتباره الخيار الوحيد كأهون الشرور، مثلما ما قالوا أن لا بديل عن مجيء الإحتلال الأجنبي للخلاص من الدكتاتورية المحلية، ومن الحصار الذي كان يدفع باتجاه الإحتلال، والذي سكت عنه الكثيرون؟ ان صمت المثقف او تبريره لما يجري من كوارث هو العامل المساعد الذي يحتاجه اصحاب امتياز الطائفية ليتكاثروا كالجراد وليقضموا العراق قطعة قطعة وهذا ما يجب ان يحاربه المثقف الواعي، غير التابع، بقلمه ولوحته وموسيقاه وفيلمه.
‘ كاتبة من العراق
المثقف ووجبات التقسيم الطائفي السريعة! هيفاء زنكنة اليوم في 1:39