إلى الإخوة السَّادة المطارنة، أعضاء المجمع المقدَّس الموقَّرين وسائر أبنائنا وبناتنا بالمسيحِ يسوع، إكليروسًا وشعبًا، المدعوِّين قدِّيسين، مع جميع الذين يَدعُون باسم ربِّنا يسوع المسيح، ربِّهم وربِّنا نعمةٌ لكم وسلامٌ من الله أبينا، والرَّبِّ يسوع المسيح (اكور: 1-3).
نعمةُ الصِّيام!
نعمةُ الصِّيام! "إنَّ نعمةَ الصِّيامِ الكاملِ الوقارِ هي فائقةُ المجد" بدأتُ أفكِّر بموضوع رسالة الصَّوم لهذا العام، وفتحتُ للحال عشوائيًّا كتاب الصَّوم (التريوذي) فوجدتُ نشيدًا مطلعهُ هذه العبارة: "نعمةُ الصِّيام!" فرأيتُ في ذلك إشارةً من الرُّوح القدس. وأصغيتُ إليه. وقرَّرتُ أن يكون موضوع تأمُّلي ورسالتي حول معاني الصِّيام المقدَّس الجميلة.
فهذه المرحلة من العام ومن حياتنا المسيحيَّة هي من أقدس مراحل السَّنة، ولها مكانةٌ مميَّزةٌ لدى جميع المسيحيين في كنيستنا، بالرَّغم من التفسيحات الكثيرة التي خفَّفت من عبء الشقِّ الجسديّ من فريضة الصَّوم المقدَّسة.
الصَّوم الرُّوحيّ والصَّوم الجسديّ متلازمان للصَّوم شقَّان: الشقّ الجسدي والشقّ الرُّوحي. والشقَّان مرتبطان الواحد بالآخر. ولا يجوز فصل الصَّوم الجسديّ عن الصَّوم الرُّوحيّ. وكما لا يجوز تفضيل الصَّوم الجسديّ على الرُّوحيّ ولا الرُّوحيّ على الجسديّ. الكتاب المقدَّس، والتقليد الكنسي المسيحي، والمنطق الإنساني والحكمة الطبيعيَّة.... كلُّها تشير إلى أهمِّيَّة الصَّوم الجسديّ والصَّوم الرُّوحيّ. وهما فرضُ عبادةٍ وبرهانُ إيمانٍ بالله، وفعلُ محبَّةٍ لله وللقريب، ولا سيَّما الفقير والمحتاج والضعيف.
بالأسف هناك مَن يقول: أنا أعطي الفقير حسنةً، وهذا يُعفيني من الصَّوم. وأنا لا أدخِّن أيَّام الصَّوم، وهذا يُعفيني من الصَّوم. وأنا لا آكل شوكولا، وهذا يُعفيني من الصَّوم. كلُّ هذه أعمالُ فضيلةٍ جميلة، ولكنَّها لا تُغني عن الصَّوم الجسدي التقليدي. بل هي مكمِّلةٌ له ومعبِّرةٌ عنه وجزءٌ منه.
وللصَّوم شقٌّ عائليّ مسيحيّ اجتماعيّ وراعوي: الفرد يصوم والعائلة تصوم مجتمعةً (الرجل، المرأة، الأولاد...)، والحيُّ (حيث مسيحيُّون متواجدون) يصوم، والرَّعيَّة تصوم.... بحيث يدخل الصَّوم بروحانيَّته وهدفه وكلِّ مظاهره، يدخل الصَّوم إلى قلب الإنسان ونفسه وجسده وعقله ومخيِّلته ومشاعره، إلى كلِّ حواسه. فيصوم الفم، ويصوم اللِّسان، وتصوم العين، ويصوم السَّمع، ويصوم النَّظر، وتصوم الأذنان، وتصوم اليدان والرِّجلان... ويصوم الإنسان بكلِّ مكوِّناته الجسديَّة والرُّوحيَّة والنَّفسيَّة وبكلِّ قِواه...
وإلى هذا تشير صلواتنا التي تشمل نفسنا وجسدنا. منها هذه الصَّلاة الجميلة من ليترجيَّا الأقداس السَّابق تقديسها (البروجيازمينا): "أيُّها الإله العظيم الحميد. يا من بموت مسيحه المحيي نقلنا من الفناء إلى البقاء. أنت أعتِقْ جميع حواسّنا من الأهواء المميتة. مقيمًا لها العقل الباطنيَّ مرشدًا. لتبتعدْ عيوننا عن كلِّ نظرٍ شرِّير. ولا تطرقْ مسامعَنا الأقوالُ البطَّالة. ولتتنزَّهْ ألسنتُنا عن الأقوال غير اللائقة. نقِّ شفاهنا التي تسبِّحكَ يا رب. إجعل أيدينا تمتنع عن الأفعال القبيحة. ولا تفعلْ إلاّ ما يرضيك. وحصِّن بنعمتكَ كلَّ أعضائنا وأذهاننا".
صلواتنا الطَّقسيَّة الكنسيَّة تشير تكرارًا إلى ذلك. هكذا نصلِّي في الصَّلاة الشعبيَّة الجميلة: "يا مَنْ هو في كلِّ وقتٍ وكلِّ ساعة [...] قدِّس نفوسنا. نقِّ أجسادنا. قوِّم أفكارنا. طهِّر نيَّاتنا". ونصلِّي تكرارًا: "قدِّس نفوسنا وأجسادنا" ونمسح المريض بالزَّيت قائلين: "لشفاءِ النَّفس والجسد...".
وتدعونا الكنيسة في صلواتها إلى الوقوف والجلوس والرُّكوع والسُّجود وانحناء الرأس والجسد والرُّكَب والتصفيق والهتاف والبكاء وقرع الصَّدر... ونُدْهَن بالميرون المقدَّس على كلِّ حواسنا وأعضاء جسدنا: الجبهة والعينَين والمنخَرَين والفم والأذنَين والصَّدر واليدَين والرِّجلَين. وكذلك يصير عند دهن الطِّفل المعتمد بالزَّيت قبل تغطيسه في جرن المعموديَّة المقدَّسة.
وهكذا القول عن الصَّوم في شِقَّيه الرُّوحي والجسدي. ولهذا فإنَّ ممارسة فضيلة وفريضة الصِّيام الجسدي، أعني الامتناع عن المآكل من نصف اللَّيل حتى السَّاعة 12,00 ظهرًا، والقطاعة عن أطعمة معيَّنة (ما يسمَّى بالزَّفرَين، زفر اللَّحم وزفر البياض من البيض والجبنة والحليب)، وممارسة فريضة الصَّوم الرُّوحي أي ممارسة الفضيلة والقيام بالأعمال الصَّالحة ومساعدة الفقراء والتضامن مع الآخرين... هي كلُّها مترابطة ومكمِّلة ومتمِّمة للفريضة الواحدة: الصَّوم!.
عندما تتابعون الأوضاع المأساويَّة من خلال التلفزيون وباقي وسائل الإعلام والاتصال الاجتماعي...