ذاكرة عراقية : الموظف الحكومي أيام زمان !
بقلم / محمد مجيد الدليمي ..
الكثير مِن الناس وخاصة الجيل الحالي , لا يعرف عن حال الموظف الحكومي بعد تأسيس الدوله العراقية الحديثة
عام 1921 وما بعدها وما هو شعوره وتفكيره في الوظيفة ؟ وكيف كانت حياته المادية المعيشية ؟
وهل هناك حالات من الفساد الاداري وتعاطي الرشا ؟
ومدى التزام الموظف انذاك بقيم النزاهة والاخلاص لعمله الوظيفي ...
هذه التساؤلات تعكس في الاجابة عليها حقيقة وواقع حياة الموظف الحكومي العراقي ايام زمان , أجابنا عليها ,
وزير سابق ( آبن رئيس وزراء ) ومناضل سياسي ودبلوماسي مخضرم الدكتور ( عدنان مزاحم الباچه جي ) ( 1923 )
الذي عايش فترة تأسيس الدولة العراقية الحديثة وما بعدها , حيث ذكر في كتابه الموسوم ( ذاكرة العراق )
المتضمن سرد ذكرياته الممتدة منذ العشرينات حيث بداية بناء الدولة العراقية الحديثة وحتى سقوطها, حيث قال :
الموظف العراقي في بداية تأسيس الدولة العراقية وما بعدها , كان يشعر بالفخر والاعتزاز لكونه موظفا بالحكومة ,
ولم يفكر في ان الوظيفة هي وسيلة لجمع المال والانتفاع والثروة , بل العكس كان هناك تقليد مفاده بان الوظيفة
هي شرف وواجب , على الرغم من ان الرواتب الشهرية كانت بسيطة جدا , يعني خريج الجامعة الحاصل
على شهادة البكالوريوس كان يتقاضى ( 18 ) دينارا في بداية تعيينه , والبقية من غير خريجي الجامعة
كانوا يتقاضون 7 دنانير او 10 دنانير شهريا , من غير ان يجعلنا نتخيل ان الحكومة العراقية كانت تجسد
جمهورية افلاطون الفاضلة ويضيف الاستاذ ( الباچه جي ) معترفا بقوله : كان هناك فساد اداري ,
ليس هناك زمن يخلو من الفساد , لكنه كان في نطاق ضيق ومحصور للغاية وقليل ويتمثل في امور بسيطة مثل استغلال النفود ,
وهذا لايعد ضمن قضايا الفساد في المقاييس الاعتيادية, واذا ثبت على اي موظف في الدولة انه تعاطى رشوة ,
مهما كانت بساطتها فيفصل من وظيفته في الحال وينبذ اجتماعيا ويسقط بين افراد المجتمع حتى من قبل العائلة ,
ولهذا استطيع القول ان موظفي الحكومة العراقية كانوا اقل فسادا بين موظفي الحكومات في الدول العربية
وكانوا اكثر كفاءة من امثالهم في الدول العربية ..
ويمضي ( الباچه جي ) متحدثا في هذا الجانب الذي يعتبره مهما للغاية من اجل بناء الدولة الحقيقية قائلا :
كان الموظف يفتخر بانه يعمل في الحكومة ويفتخر بنزاهته , فاذا كتب الوزير مذكرة شكر او ثناء بحق اي موظف ,
فان ذلك يكون مدعاة للاحتفال والفخر والمزيد من الشرف , كانت هناك تقاليد وقيم واخلاق وظيفية .
في هذا الصدد شاركنا الحديث المؤرخ التراثي ( الحاج محمد الخشالي ) صاحب مقهى الشابندر الشهير ,
حيث اكد على نزاهة واخلاقية وقناعة الموظف العراقي ايام زمان , على الرغم من بساطة راتبه الشهري ,
ويروي الخشالي هذه الحكاية الواقعية المعبرة قائلا :
في عام 1947 , كان محاسب وزارة الداخلية ( الحاج خالد ) يتسلم الرواتب المدنية من مصرف الرافدين
الذي يتولى ادارته انذاك ( محمد علي الچلبي ) لتوزع على الموظفين المدنيين في وزارته ,
حيث خصص مصرف الرافدين يوما لاستلام رواتب المدنيين واليوم التالي لرواتب العسكريين من كل شهر .
وذات مرة حصل نقص مبلغ قدره ( ثلاثة الاف ) دينار في صندوق مصرف الرافدين ولم يعرف امين الصندوق
ولا المحاسب الذين هم من الطائفة اليهودية , اي جهة حصل فيها هذا النقص , وقد اخفي الموضوع عن مديرهم
( محمد علي الچلبي ) لكي يتداركوا النقص الحاصل ويعرفوا حقيقته , وخلال يوم واحد حضر محاسب
الداخلية ( حجي خالد ) الى غرفة ( محمد علي الچلبي ) واخبره بأن عنده زيادة مبلغ ( 3000 ) دينار
حين استلامه رواتب الموظفين المدنيين وطلب منه الاستفسار من امين الصندوق والمحاسب ,
فدعى الچلبي المذكورين وسألهم فيما اذا كان لديهم نقص , فأجابوا : نعم لدينا نقص مبلغ ( ثلاثة الاف ) دينار ,
فقال لهم الچلبي لماذا لم تخبروني بذلك , فاجابوه بانهما فضلوا التروي للتحري عن النقص , وعليه فقد
اعتذر ( حجي خالد ) وقدم المبلغ بكل ممنونية ... وشكره الچلبي واثنى على نزاهته وصدقه واخلاصه .
وكان نموذجا للموظف الحكومي العراقي ايام زمان !!! .
المصدرة / جريدة المشــــــرق .