نايف عبوش المضايف، والدواوين في الريف ظاهرة اجتماعية متوارثة جيلا بعد جيل، وهي مفتوحة للجميع من المرتادين من الربع، والضيوف،وعابري السبيل، وهي بالإضافة الى ذلك، بمثابة منتدى عام للتسامر، والمطارحات الشعرية، وفض النزاعات وتقاليد الفصل العشائري، التي تسدل الستار، على الكثير من النزاعات العشائرية المعقدة، التي يعجز أحيانا عن حلها القضاء التقليدي في المحاكم. وتبقى الدواوين، بهذه المكانة من الرمزية، كنزا ثريا في مجال الموروث التراثي، بدءا بطريقة إعداد القهوة العربية الأصيلة، مرورا بالمنسف العربي، وانتهاء بثقافة العرافة، والأنساب، والقصيد، وبهذا المعنى يمكن ان يصح وصفها بان (المجالس مدارس)، كما اعتاد الناس ان يقولوا عنها في هذا المجال.
وبالرغم من تداعيات موجة التمدن المتواصلة بوسائلها المتعددة، فقد ظلت المجالس الريفية قائمة، ومفتوحة، بل وتضاعفت الدواوين في اعدادها اليوم، فلم تعد حكرا على بيوتات اعمدة القوم من شيوخ القبيلة وحسب، بل انشاها البعض من الأسر الميسورة، وأعيان القوم.
وكانت مجالس الدواوين حتى الامس القريب تمتاز بالمطارحات الشيقة، الى جانب تركيزها على قضايا المجتمع، ومع ما يثور فيها من جدل، ونقاش، الا ان كل ذلك كان يجري في اجواء يسودها الاحترام، ويتخللها أجواء ممتعة من النكات، والحزورات، والطرائف التي تلطف الاجواء، وتدخل البهجة في نفوس روادها. وكانت الجلسات تمتد في العادة الى ساعة متأخرة من الليل، ويلاحظ ان موضوعاتها على عفويتها تركز على العادات، والتقاليد، و دورها في ترسيخ منظومة القيم للفرد، والمجتمع.
والملاحظ أن معظم تقاليد الريف ظلت صامدة، برغم زحف رياح العصرنة عليها، مع ان تحديات الحداثة تجاوزت على الكثير من معالم موروثها التراثي، واتت على الكثير من تقاليدها، فبقت بعض مجالس السمر قائمة،في حين لا تزال بعض كبريات الدواوين عامرة بالربع، والأهل، حيث لازال يطاف على روادها من الضيوف، والمارة، وعابري السبيل، بالقهوة العربية، التي لم تتجرأ العصرنة، حتى الآن، على المساس بقدسيتها، وتنحيتها عن الوجود، وإخراجها من فضاءات الدواوين، رغم كل المغريات البديلة، وسهولة تداولها.
ان المطلوب من الأدباء بما هم الابناء البررة لريفهم، أن ينشطوا في تفعيل طاقاتهم الابداعية في ربوع ديرتهم، ويتواصلوا مع مضايف الأهل، والدواوين لكي ينهضوا بدور الديوان بروح جمعية حتى يعوضوا بجدارة غياب فطاحل أعلام العتابة، والزهيري، والكصيد، الذي اشتهر بها ألريف ردحا من الزمن.
ولعل الاهتمام بمثل هذا الموروث الشعبي، صار اليوم، ضرورة اجتماعية، تفرضها بإلحاح، تحديات المعاصرة، التي تهدد الموروث الشعبي، بالكنس، والمسخ، بالعولمة الجامحة بفضائها المفتوح، ووسائلها التقنية المتقدمة، من جهة، وحاجتنا لرفاهية ذهنية، وتنشيط لذاكرة تبلدت، بعد أن أصبح الريف حاضرة حضرية رتيبة، ومملة، وأوشكت مجالس السمر أن تنقرض في الريف، من جهة أخرى، الامر الذي يسوغ الدعوة للنهوض بثقافة التراث، كيما تستعيد مجالس دواوين اليوم نبضها، وتحتضن روادها من السمار والأدباء من جديد، وتؤكد حضورها الفاعل، بعد ان كادت العصرنة أن تطيح بها، وتمحوها من الوجود.