يعلن انتهاء فصل الصيف في الموصل، بطقس موصلي معروف هو كسر جرار الماء الفخارية ( الشغبات) التي كانت تستعمل طوال أيام الصيف في السطح لشرب الماء، حيث ترمى (الشغبي) وهي (التنكة في بغداد، والقلة في مصر)، ترمى من السطح نحو الزقاق (العوجي) مع الصراخ بجملة (تموز ... طباخ) ، وطباخ هنا هو كناية لشهر آب (أغسطس) ولم اسمع أحدا من غير اهل الموصل يستعمل هذه الكلمة ، ومن الممكن أن التسمية آتية من أن مناخ شهر آب الذي يقوم بانضاج الثمار في أشجارها أي (طبخها).ـ
ويسمي فصل الصيف في الموصل (أبو الفقاغي) أي الفقراء، لأنه يحميهم من البرد القارس، فلا يحتاجون لدثار أو مكان ينامون فيه، وفي فصل الصيف كنا نذهب مع والدينا وقت الفجر إلى (الكب) وهو ساحة فسيحة تقع على ساحل نهر دجلة تحت الجسر الحديدي القديم ( جسغ العتيق) يباع فيها الركي( الشمزي) والبطيخ ونشتري بعضا منه (كومة) حيث يباع أكواما أكواما ، ونحمل ما اشتريناه على ظهر الدواب أو في عربة يدفعها صاحبها باليد ، واشهر صاحب عربة دفع في خمسينات وستينات القرن الماضي كان (حمدو وشقيقه سعدو) وكانا يقفان خلف كنيسة اللاتين في الساعة على شارع الفاروق . وكانت مرافقتنا لوالدينا إلى (الكب) لسبب واحد هو شراء (الشمام) وهو البطيخ الصغير الملون والمخطط ، واشهر أنواع البطيخ كان (بطيخ ألقوش).ـ
ولم نكن نعرف البراد أو الثلاجة في الموصل حتى منتصف الخمسينات، حيث كان يستعمل (صندوق الثلج) أو (البغادي) وهو عبارة عن صندوق خشبي كبير مغلف من الداخل بمادة (الجينكو) وهي شرائح حديدية رقيقة ، يوضع معها صندوق محكم من نفس المادة يملأ بالماء ، ويوضع فوقه بعض من الثلج ، ليبرد الماء الذي بداخله ، وليشرب أهل البيت ماءا باردا ، وكان الثلج يأتينا من معامل الثلج بشكل مباشر عن طريق سيارات (لوري) خاصة لنقل الثلج ، يقوم كل بيت بتسجيل اشتراكه السنوي والكمية اليومية التي يحتاجها ، وكانت سيارة الثلج تقف في أول الزقاق ويقوم العامل بتقطيع قوالب الثلج التي يصل طولها لأكثر من متر واحد بمنشار خاص ذو اسنان كبيرة ويوزعها على البيوتع ( قالب أو نصف أو ربع قالب) ، وكنا نقوم باختيار قالب الثلج المملوء ( عالي الكثافة) ونترك الذي يكون فارغا من وسطه لأنه سريع الذوبان، ولكي نقلل من سرعة ذوبانه وللحفاظ عليه مدة أطول، كنا نقوم بلفه بقطعة من الجنفاص(الكونية).ـ وكان أهل الموصل يحصلون على ماء الشرب حتى ثلاثينات القرن الماضر وأربعيناته من النهر مباشرة ، حيث كان سقاء الماء (السقا) يملأ بعض القرب الجلدية (الجود) المصنوعة من معدة الحيوانات ، بالماء من نهر دجلة ويوزعه على الناس ، وكان يدخل بالقربة إلى فناء الدار ليفرغها في (المزملي) وهي صندوق حجري لخزن المياه، وبعد أن بدأت الحكومة بتصفية المياه وتعقيمها دخلت صنابير المياه (الحنفيات) إلى البيوت وأصبحت (المزملي) من بقايا التراث الموصلي.ـ في الصيف كان أولاد المحلة يذهبون للسباحة في ( الشط) وهو نهر دجلة العظيم الذي يقسم الموصل نصفين ، الجانب الأيمن ( الموصل القديمة) والجانب الأيسر وكان اهل الجانب الأيمن يسمون الجانب الآخر ( هذاك الجينب ) ، كان أهلنا يمنعوننا من السباحة في نهر دجلة خوفا علينا من الغرق ، فالنهر كان يبتلع الكثير من الشباب .. ولم أقم شخصيا بالسباحة في دجلة الموصل طيلة طفولتي وصباي بسبب عدم معرفتي السباحة، حتى عمر الشباب حيث مارست هذه الهواية الجميلة تحت الجسر الحديدي من جهة الجانب الأيسر...ـ كانت بيوتنا في الموصل القديمة مبنية من الجص والحجر ، وكان بيتنا في محلة الساعة من بينها ، في الصيف كنا ننام ليلا فوق السطح حيث كانت والدتي تصعد للسطح [/size] ـ ( وتفغش المنامات) مع غياب الشمس ، حتى ( تبغد) وننام على فراش بارد ، وكان البعض يضعون ( الناموسيات) وهي ( الكلل البيضاء) لتقيهم من البعوض والبق القارص ليلا .. وكان أهلنا يضعون ( الشغبي ) وسط دائرة حديدية مرتبطة ( بالمحجل) ويغطونها بقطعة قماش ابيض كي تبقى نظيفة ولا يدخل فيها البق أو الذبان أو ..( ابو خسيم ) وهو السحلية الصغيرة.ـ وحين كنا نستلقي على ( مناماتنا) في السطح ننظر للسماء الصافية بنجومها التي تتلألأ ، وكان اهلنا يحذروننا من ان نقوم ( بعد) النجوم كي لا يطلع بأيدينا ( الفالول )!! وكان بعض الجيران يأخذون معهم صينية ( بطيخ وشمزي) ليأكلونه قبل النوم . .. كانت سطوح بيوتنا متجاورة كبيوتنا ، ولا يفرق بين سطح وسطح إلا جدار صغير ( ستاغة) لكن لم أرى يوما والدي أو رجال وشباب الجيران ينظرون لسطوح بيت جارهم .. فقد كانت الجيرة مقدسة...ـ في السطوح ايضا كانت هناك حبال الغسيل ، حيث تمد الحبال بين حائط وآخر ، أو بين عمود وآخر وتربط بقوة وتوضع فيها ( الشكاخات ) حيث ينشر غسيل الملابس ... وللصيف في الموصل حكايات أخرى ... ـ