[size=32]مقاهي الموصل بين الحاضر والماضي في حوار مع اقدم قهوجي فيها عبد الرزاق العطار[/size]
مقهى عراقي -
قال عبد الرزاق العطار، وهو يحاور السيد يونس جاسم البان؛ الرجل الذي يمتلك ذكريات وصورا عن مقاهي الموصل القديمة:ـ بداية حدثني عن مقاهي مدينة الموصل وذكرياتك عنها ايام زمان؟ يونس البان: لمقاهي الموصل طعم ونكهة خاصة ومميزه وسأحدثك عن مقاهي باب الجديد لأني من هذه المنطقة عملت وترعرعت فيها. من أشهر المقاهي مقهى غاوي ومقهى احمد الأَقَّعْ ومقهى محمود العيدة ومقهى حاج علي وجميعها كان يرتادها عمال (صنف) البناء، ولكن كان مقهى حاج علي كبيرا وله سطح يجلسون في جنباته في أيام الصيف وكان الكثير من العمال من أهالي القرى المجاورة للموصل يبيتون في المقهى بدون مقابل وكان يرتاده أيضا أصحاب (الاكْوَارْ)؛ أي معامل الجص.ـ العطار: هل اختصرت هذه المقاهي على تقديم الشاي ام كانت لها نشاطات اخرى؟ يونس البان: نعم كان في الكثير منها نشاطات رياضية وثقافية فمقهى المصبغة في منطقة شهر سوق الذي كان يمتلكها علي الخَجُّو وعلي النَنِّي كانا يتفقان مع راوي الحكايات (القصّخون) ليروي حكايات الزير سالم والعنتريات، وكان الناس بالإضافة إلى أهالي المنطقة يأتون من مناطق أخرى لارتياد المقهى، وسماع القصص، واكتساب العبر والمآثر من هذه الشخصيات. وكان هناك أيضا مقهى إسماعيل الحَجَّارْ في منطقة محلة الرابعية قرب الساعة وكانت تقام فيه أنشطة رياضية كالمصارعة ورفع الإثقال والبنجة وكانت تجرى المسابقات والمنازلات بين الرياضيين من جميع مناطق الموصل وكان من أشهرهم إسماعيل الحجار ومحمد طاهر وخطاب البيج ويحيى البطل. وكان ايضا مقهى صَفُّو في باب العراق ( باب عغاق ) مخصصة للطيور والديوك وكانت تجرى فيها مقاتلات الديوك الهندية في حَلَبَة مخصصة للدِّكِشْ (اي: المقاتلة بين الديوك)ـ
العطار: متى بداءت العمل في هذه المهنة؟ يونس البان: بعد وفاة والدي، وكان عمري انذاك سبع سنوات عملت في مقهى احمد نيو، وكنت أوزع الماء على رواد المقهى في طاسة بْرِنْجْ (اي: نحاس) وإبريق كبير أيضا من البْرِنْجْ وكنت احضر الماء في (الحبّ) وهو كما تعلم اناء كبير من الفخار، واضع الثلج فيه في أيام الصيف ليكون جاهزا دائما وكنت أتقاضى اجرا بمقدار 10 فلوس في اليوم. وفي العاشرة من عمري ابتاع عمي محمود البان هذا المقهى الذي نجلس فيه وأصبحت احضر الشاي وأقدمه للزبائن الذين كان معظمهم من أرباب مهنة البناء وعملت في هذا المقهى عدة سنوات إلى أن باعها عمي محمود الى رجل آخر. وبعدها أصبحت بائع شاي متجولا بين الاسواق، وكنت اصب الشاي لأصحاب المحلات والمارة.ـ
العطار: هل كان مسموحا للشباب باعمار صغيرة ارتياد المقاهي؟ يونس البان: كان في زماننا ضوابط تربيه صارمة وأعراف اجتماعية سائدة تمنع الصغار ارتياد المقهى. واذا ما جلب احد الآباء احد أبنائه إلى المقهى يتلقى توبيخا قاسيا من أقرانه (اي: رَبْعِهِ كما نقول في لهجتنا الموصلية) وكانوا يسمون الصغير بالجاهل ولا يسمحون لمن كان في هذا العمر بالحضور الا في أيام الأعياد فحسب.ـ كان الرجال يجلسون في المقهى على شكل حارات أي مجموعات فإذا تغيب احدهم عن المجئ هبوا إلى داره للسؤال عنه، وعن سبب عدم مجيئه، وإذا تمرض احدهم سارعوا لمساعدته ويجمعون له المال ليسد حاجة عياله كانت الأواصر الاجتماعيه أقوى من الآن وكانت الالفة والمحبة موجودة بين الناس. وكان يوجد في كل مقهى جهاز (قاوان) لسماع الأغاني وسماع قراءات أشهر القراء المصريين وكان ينصب (الزنبرك)، ويضعون الابرة على الاسطوانات فتدور ويخرج الصوت من خلال مخروط معدني ملتوٍ. وكان اشهر هذه الاجهزه يمسمى (ابو الكلب) وكان انكليزيَّ الصنع، ومن ثم الغي هذا الجهاز ليحل محله الراديو وكانوا يتجمعون حوله لسماع نشرات الاخبار والاغاني من اذاعة صوت العرب من القاهرة ومن غيرها من الاذاعات وبعدها انتشرت التلفزيونات وكان الناس يتجمعون حولها لمشاهدة المسلسلات التي حلت محل القصّخون وهم يشربون الببسي وغيرها .ـ
العطار:ما هي المشروبات التي كنتم تقدمونها في المقاهي ؟ يونس البان: كنا نقدم الشاي والقهوة والحامض أي (النوم بصرة) وكنا نحضر هذه المشروبات على الفحم وكنا نستخدم فحم البلوط لانه مميز فيصبح للشاي نكهة مميزه وكنا نجلبه من سوق الفحامين من اسماعيل الفحام ونجلب الشاي والسكر والقهوة من ذنون القوطجي في سوق الصرافين.ـ
العطار: كم كان سعر استكان الشاي في ايامكم ؟ يونس البان: كنت ابيع الشاي بعشرة فلوس وبعدما قام الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم باضافة فلس واحد على العملة المعروفة ب (العانة) لتصبح خمسة فلوس صرت ابيع كل استكانين بخمسة عشر فلسا للعمال ولاصحاب الدكاكين.ـ
العطار: كيف ترى واقع مقاهي الموصل اليوم وماهو الفرق عما كان سائداً من قبل؟ يونس البان: المقاهي تطورت كثيرا لان الناس في تطور دائم فالاماكن اصبحت اكثر اناقه فبعدما كان اثاث المقهى مختصرا على الدكة والحصران اصبح وجود مقاعد مريحه من الاسفنج والقماش وبعدما كنا نقدم الشاي والحامض اصبح يقدم الشاي والحامض والحليب والقهوة والكاكاو والكبتشينو والفخفخينة واسماء اخرى لا اعرفها واصبحت مقاهي متخصصة بتقديم الاركيله وبشتى انواع الاطعام واصبح لهذه المقاهي ديكورات جميله مزينه بالاضواء ولعامليها زي موحد ويرتادها الرواد من كل الاعمار وحتى أن بعض المقاهي في الاماكن الراقيه اصبح روادها من السيدات.ـ
العطار: ما هي اشهر اللعبات التي كان يقضي بها الزبائن أوقاتهم في المقهى بالاضافة الى تبادل الحديث ؟ يونس البان: الطاولي والدومينا كانت من اشهر اللعبات اضافة الى الداما والشطرنج وفي ايام رمضان يزيد نشاط المقاهي وتبدأ نزالات لعبة الفَرّ بين فرق المناطق حيث يتوافد الناس الى المقاهي بعد صلاة التراويح ويستمر اللعب الى قبيل صلاة الفجر وياكل الجميع الحلويات والفواكه التي يقدمها الخاسرعادة. وتستمر هذه الفعاليه الى نهاية ايام الشهر الفضيل ويتوج الفريق الفائز بالمرتبة الاولى ويحمل اللقب الى العام الذي يليه في شهر فضيل اخر.ـ
العطار: بعد 66 عام من العمل في هذه المهنة ماذا حققت؟ يونس البان: عملت في هذه المهنه وانا عمري 7 سنوات وبلغت من العمر 73 ومازلت اعمل واعتبر من اقدم الجايجيه في الموصل. حضيت برحمة الله ومحبة الناس، ولم ادخر المال وتنقلت وتجولت في شوارع الموصل وعشت كل هذه السنوات بحلوها ومرها وحيدا ، ولم اتزوج ، متنقلا في دور الايجار اقضي جميع احتياجاتي بنفسي من مأكل ومشرب وغسل ملابس واعمال اخرى.ـ
العطار: لو رجع بك الزمن الى الماضي هل ستختار نفس الطريق وذات المهنة؟ يونس البان: لو رجع الزمن بي الى الوراء لكنت اخترت نفس المهنة التي عملت بها طيلة هذه السنوات لاني عشقتها واحببتها كثيرا ولكني كنت ساجري تعديلا في نمط حياتي فسوف ابحث عن زوجه صالحة تقاسمني حياتي وتنجب لي اطفالا ليكونوا امتدادا لذكري اضافة لمساعدتي في هذه الايام الصعبة، ايام الكهوله، وادخر المال لهم ولكنت بنيت دارا، لان الدار (سترة) ولعل من المصادفة ان تسالني هذا السؤال وقد اتاني ليلة امس صاحب الدار التي اسكن فيه ليبلغني بضرورة إِخلائه ليهدمه ويبني دكاكين وانا محتار الان اين اذهب وكما ترى انا رجل كهل عاجز عن حمل اغراضي.ـ
وفي ختام حديثي لك انصح الشباب العازفين عن الزواج لسبب او لآخر ان يتزوجوا ويُكَوِّنُوا أُسَرًا وينجبوا اطفالا لان الوحدة مهما كانت جميله اخرها وحشة وضياع للامال.ـ
ـ* (القصّخون) او ( القصطخون )ـ اسم يطلق على من يروي حكايات الزير سالم والعنتريات.ـ -------------------------------------------------------------
فراگهم بچاني - حسين الاعظمي - تراث
إضافة من هيئة التحرير:ـ نتقدم بالشكر للاخ عبد الرزاق العطار و السيد يونس جاسم البان لهذه الحوار الفولكلوري الجميل ونتمنى للسيد يونس البان الصحة والعافية وان يجد من اهل الموصل الطيبين من يعينه على ايجاد سكن آمن ان شاء الله.ـ للعودة إلى الصفحة الرئيسة لاضافة التعقيبات او لقراءتها، يرجى الضرب على Comments كلمة على يسار السطر التالي