الدولة : الجنس : عدد المساهمات : 2922تاريخ التسجيل : 11/12/2009الابراج :
موضوع: طارق عزيز... رجل وقضية : د. حميده نعنع الإثنين 15 يونيو 2015 - 22:20
طارق عزيز... رجل وقضية : د. حميده نعنع
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
طارق عزيز... رجل وقضية
شبكة البصرة د. حميده نعنع قبل أيام تناقلت وكالات الأنباء خبر وفاة نائب رئيس الوزراء العراقي ومهندس السياسة الخارجية في النظام الوطني السابق الأستاذ طارق عزيز وانتقاله إلى ربه الأعلى بعد أن أمضى أحد عشر عام من عمره في سجون المحتل الأمريكي وعملائه المحليون الذين يحكمون العراق، رحل عنا أكثر رجال السياسة العربية في العصر الحديث أخلاصا لمبادئه ولقيضت وطنه وأمته. وحتى كتابة هذه الكلمات مازال سجانوه يفاوضون عائلته على تسليم جثمانه الطاهر في نذالة لاتوصف وعدم احترام للموت،أولئك المجموعة من التعساء الذين أوكل الأميركيون إليهم شأن حكم العراق فإذا هم يرتكبون في حق شعبه أفظع المذابح، وأينما مروا يتركون وراءهم الخراب والظلم والموت. مات طارق عزيز في غرفة حاره من صيف العراق اللاهب في أعتى سجون عملاء الاحتلال.. في سجن الناصرية سئ الصيت.. مات وحيداً وغريباً في وطنه،، مات بعيداً عن أحبائه وأهله بعد أن منع عليه الدواء والعناية الطبية لفترة طويلة وهو مصاب بجلطه دماغية. مازال جثمانه موضوع مساومات وابتزاز، فرغم مضي أحد عشر عام على تسلم عملاء الأمريكان مقاليد السلطة في العراق ومازال ذكر أي بعثي أو كلمة البعث تبعث الرعب في أولئك الحكام وهذا أن دل على شئ يدل على إن حكومة المنطقة الخضراء ما تزال خائفة لأنهم يعرفون حجم الخيانة التي ارتكبوها في حق العراق والأمة العربية. جاءني الخبر وأنا في مدينة الرباط المغربية أحضر ندوة ثقافية عن الإعلام فكان الخبر كالصاعقة، كنت أعرف بان الفقيد قبل أن يدخل السجن أصيب بجلطة أثرت على حاسة النطق،وبالرغم من اتصالي بغالبية مؤسسات حقوق الإنسان لإطلاق سراحه ومحاولتي مقابلة أكثر من رئيس دولة في هذا الشأن إلا إن الجميع كانوا يتهربون خوفاً من الأمريكان وعملائها. عرفت طارق عزيز في بداية حياتي الجامعية في دمشق نهاية ستينيات القرن الماضي، كان لاجئاً سياسياً ورئيس تحرير جريدة "كفاح العمال الاشتراكي" التي كانت تصدر عن اتحاد العمال وكلمة لاجئ لم تكن تليق بطارق فهو كان يعتبر كل بلد عربي وطناً له، تدربت في العمل الصحفي على يديه فكان أستاذي وصديقي، كان رحمه الله جاد ولطيف في التعامل مع الآخرين مثقف من الطراز النادر وينتظر تحرير وطنه العراق للعودة أليه. في دمشق تزوج المرحوم بالسيدة الفاضلة "فيوليت" قريبته فقد وصلت مع أمه ذات يوم من الموصل شابه ساحرة الجمال وكان علينا نحن أصدقاءه وزملاؤه أن نحتفي بعرسه، ويومها فقط أي بعد عامين من العمل معه عرفت بأنه مسيحي وذلك عندما أحتاج عقد زواجه إلى أحد رجال الدين الكاثوليك، وفي كنيسة تاريخية صغيرة في باب توما أحد أحياء دمشق كان الزواج، وفي شقة صغيره مفروشة اجتمعت شله من أصدقاء رفيقنا القادم من بغداد لكي نحتفي معه بتلك المناسبة السعيدة. بعد ذلك افترقنا وودعت الرفيق طارق وزوجته وزملائي في الجريدة لالتحق بالمقاومة الفلسطينية التي كانت تتفجر أحلاماً في عمان مع الجبهة الشعبية الديمقراطية لأتدرب فيها وأناضل من خلالها. بعد قيام ثورة تموز عاد المرحوم إلى العراق مع زوجته ليتبوأ عدة مناصب في العراق الجديد،من العمل الصحفي والسياسي إلى أن وصل إلى منصب وزير الإعلام ومن ثم وزير للخارجية ونائب لرئيس الوزراء. ويشاء القدر أن لاأستشهد في المقاومة وأعود إلى دمشق للحصول على أجازة في الأدب العربي وبعد أشهر من تخرجي قام وزير الدفاع حافظ أسد بانقلاب على الحزب ووضع رفاقه في السجن ونصب نفسه رئيساً للجمهورية ليدخل سوريا في نفق طويل من الدكتاتورية والطائفية. تركت سورية إلى باريس في منحه دراسية سعى لي ألأصدقاء للحصول عليها، ولكن عندما بدأت سياسة حافظ أسد تغرق أكثر وأكثر في الحكم الطائفي وجرائم حقوق الإنسان،قمنا نحن الطلبة بندوات عدة فضحنا فيها هذه السياسة وطالبنا بتحرير السجناء السياسيين ووصل الأمر إلى سورية فألغيت منحتي وسحب جواز سفري السوري، وبدأت البحث عن عمل أستطيع أن أعيش من دخله لكن العمل للأجانب في باريس شبه مستحيل. وذات يوم جاء طارق عزيز في زيارة رسمية إلى باريس وعرف بالأمر فاستدعاني لمقابلته وقال لي معاتباً،"هل يعقل حميدة تبحث عن عمل لإتمام دراستها العليا والعراق بقيادة صدام حسين ورفاقه على وجه الأرض"، وبالفعل عينت في بعثة العراق باليونسكو ساعدني ذلك في إتمام دراستي الجامعية، وتفرغت للعمل الصحفي في جريدة السفير، وأستمرت علاقتي مع الأستاذ طارق ولم تنقطع. عمل حافظ أسد على أن يعزل سورية بشكل كامل عن العراق وأعتبر الذهاب للعراق بمثابة الذهاب إلى إسرائيل. إنفجرت الحرب العراقية الإيرانية وأدركت خطورة هذه الحرب لا على العراق وحده بل على أمن الأمة العربية، للان ذلك الرجل المعمم الذي كان لاجئاً في العراق بدأ وكأنه يريد تصدير ثورته، وكان العراق أول أهدافه للاعتبارات كثيرة أهمها الإدعاء بوجود المقدسات الشيعية على أرض كربلاء والنجف وهنا أود أن أذكر مقابلة صحفيه جمعتني مع الخميني في عام 1978 في ضاحية نوفل لوشاتو حيث كان يقيم وكان اللقاء بواسطة بني صدر قبل عودته إلى طهران ونشرة المقابلة في مجلة الموقف العربي التي تصدر في قبرص حيث أخذ الخميني خلال المقابلة عندما سألته عن العراق أخذ يهدد العراق والبعث ولحركة القومية العربية مدعياً أن نظام العراق نظاماً كافراً، ولأنه قومي عربي وأعتبر بان أول مهمه له عند عودته هي إسقاط صدام حسين، وأذكر بأنه حصلت مشادة كلامية بيني وبينه عندما قلت له أترك العراق لنا نحن العرب لنحاسبه وأذهب أنت لإسقاط الشاه، وأنتهت المقابلة وارسلة إلى الأستاذ طارق ما دار بيني وبين الخميني وأبلغته بحقده الدفين على العراق كان ذلك نهاية عام 1978. بالرغم من محنة العراق قبل الحرب وبعدها أحتضن العراق كافة الطلبة العرب من شمال أفريقيا ومصر وسوريا واليمن فقدم أعطى منح دراسية لهؤلاء الطلبة، وعندما كنت أسأل الأستاذ طارق عن الهدف من هذا الدعم كان يجيبني "إنا نرغب في أنشاء جيل عربي متمكن ومتعلم ليعود سواء إلى العراق أو بلدانهم للمساهمة في نهضة الأمة. تصاعدت الحرب وكثرت كتاباتي عنها فاضحة دور النظام السوري التأمري على العراق وتزويده إيران بالاسلحه المستوردة للجيش السوري وترسل إلى إيران. وعلى أثر مواقفي المعارضة للنظام الإيراني وتأيد النظام السوري لهم ضد العراق أنهيت خدماتي من العمل في جريدة السفير التي كانت منحازه في الحرب ضد العراق. بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية وانتصار العراق بدأت أميركا في صفحه جديده من التأمر عليه ومن ثم فرض الحصار الجائر، بدأت وعدد من الزملاء الصحفيين ولجان حقوق الإنسان في باريس نشاطا محموما ضد الولايات المتحدة الأمريكية، وكنت في تواصل مع العراق بمناسبات مختلفه سواء إعلامية أو مع لجان حقوق الإنسان. أن إنتصار العراق في حربه مع إيران كان معجزه إلهيه لم يكن الأمريكان يتوقعوها حيث أصبح للعراق بعد الحرب سمعة دوليه وعربية مشرفه وتعاطف معه في محنة الحصار العديد من أحرار العالم، وكان الأستاذ طارق عزيز هو المسئول عن النشاط الخارجي للسياسة العراقية وأستطاع بذكائه ومعرفته بالعالم أن يجمع في مؤتمرات دولية تعقد في بغداد آلاف الشخصيات السياسية والإعلامية وبينما هو يقاتل على جبهة الإعلام كان يقاتل وبنفس الروحية والإندفاع على جبهة التفاوض مع الأمم المتحدة لإيصال موقف العراق الصادق ورفع الحيف والظلم عن شعبه المحاصر لمعالجة ملف الحصار مع الأمم المتحدة. ومما أذكر من مواقف الأستاذ طارق عزيز عندما كلفه الرئيس صدام حسين رحمة الله بتمثل العراق في أحد اجتماعات المؤتمر الإسلامي قال طارق للرئيس"ولكن سيدي أنا مسيحي كما تعرف" أجابه الرئيس "أنا أكلف طارق العربي البعثي" ومن خلال علاقتي الطويله معه وجدته مطلعا بأمر الدين الإسلامي والحديث النبوي الشريف واللغة العربية. أثناء فترة الحصار شرعت في تأليف كتابي "طارق عزيز رجل وقضية" ورغم مشاغله رحمه الله كان يخصص لي الوقت الكافي للقاءات التي حاولت فيها إلقاء الضوء على التجربة العراقية لان الإعلام الغربي والعربي نجح في شيطنة هذه التجربة ورجالها، ونشر الكتاب في بيروت وأثار ضجه كبيرة لما يحتويه الكتاب من وثائق غاية في الأهميه ومحاضر جلسات مع غورباشوف، بيكر، وزعماء عرب وفي أخر زيارة لي إلى بغداد قبل احتلال العراق بأيام كنت اصطحب معي وفدا عالي المستوى من الإعلامين والصحفيين الأجانب لتأيد العراق، ويوم وصلنا بغداد علمنا أنه رحمه الله يلازم الفراش نتيجة جلطة أثرت على نطقه ورغم ذلك جاء إلى المكتب وأستقبل الوفد ووجه بتنظيم اتصالاتنا. صباح اليوم الذي أندلعت فيها الحرب، أرسل الأستاذ طارق عزيز في طلبي بفندق الرشيد وطلب إلي أن أرحل والوفد المرافق لي، وعندما عارضته لأنني كنت أريد البقاء في بغداد بصحبة الوفد تضامنا مع العراقيين في هذه المحنه لكنه أصر على المغادر وقال "ستكونين هدفاً سهلاً في الفندق لأننا سنختفي في ملاجأ ولن تجدي أحداً منا، ثم ما ذنب الوفد المرافق معكي الذين تطوعوا لمساعدتنا، وقام بترتيب سفرنا في أخر طائرة غادرت بغداد الى عمان قبل الإحتلال بساعات، وعندما شاهدني أبكي حزناً على العراق قال لي "لاتبكي سوف نلتقيكم مرة ثانية أنشاء الله، للإننا سنقاتلهم من بيت إلى بيت ومن شارع إلى شارع لا تقلقي ففي العراق رجال وطنيون يؤمنون بالله أولاً ثم بالعراق" غادرت بغداد وأنا أعرف أنني لن أعود اليها وهذا ما حصل. لقد رحل طارق عزيز عن هذه الدنيا الفانيه وهو لا يملك أي ثروه ماديه أو حساب في بنوك العالم بل حتي داره الشخصي تم مصادرته، وأنا أقول له انك محظوظ كونك لم تخرج من السجن وترى بغداد التي أحببتها وقد تحولت عاصمة الخلافة إلى سجن كبير تديره حفنه من العملاء والسراق والمزورين، أنه عراق أخر أصبحت فيه الرجولة هي النهب والسلب والخيانه وجهة نظر يمكن تبريرها. رحم الله طارق عزيز الرجل والقضية، كم كنت وطنياً وشجاعاً وكل تعازينا إلى عائلته الصغيره وعائلته الكبيره المنتشرة في أرجاء العالم الحر المتمدن والى رفاق دربه الذين رافقوه،أولائك الذين تمتلاء بهم السجون والمنافي، ونحن جميعاً يا أبا زياد سنفتد وجهك الذي يحمل كل تاريخ العراق وكل ثقافاته المتعددة الرائ التي كنت تؤمن بها بسلام ومحبه. اللهم أحفظ العراق والعراقيين... اللهم أمين يا رب العالمين الروائية والصحفية/ د. حميده نعنع المغرب/الرباط 12/حزيران/2015
شبكة البصرة
الجمعة 25 شعبان 1436 / 12 حزيران 2015
يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس