البعــث والــديكتــاتــوريــــة ( ح - ١ ) 1 شبكة ذي قـارصلاح المختار ما جاع فقير إلا بما مُتّع به غني
علي بن أبي طالب ( ر )
من بين اكبر نقاط الضعف في تكويننا الثقافي والتربوي ظاهرة اصدار احكام بدون تحليل شامل للموضوع ومعرفة كافة ما يتعلق به ويؤثر فيه ، وهذا من اهم شروط اي بحث موضوعي عن الحقيقة ، لهذا نجد اننا نعاني من مشكلة معرفية قديمة تتجدد تلقائيا لان جذورها الاجتماعية والثقافية والنفسية الكامنة داخلنا وفي محيطنا لم تحدد وتعالج مثلما فعل الغرب الذي تعلم من تجاربه واستخدم اداة تدقيق وتحليل الظاهرة قبل اتخاذ موقف منها لتجنب الانزلاق الى مناطق خطرة من العلاقات فاصبح التحليل الموضوعي منهجا استخدم في الحياة العامة وكوسيلة للتغلب على غيره ومن ضمنهم نحن العرب .
لدينا من اسهل الامور اصدار الاحكام الجاهزة وتكرارها دون نظرة نقدية تحليلية وبعيدا عن الموضوعية والحكمة ومن ثم الوقوع في فخاخ الخطأ المتكرر والذي يتخفى تحت اغطية الذاتية المفرطة والانكار العملي لامكانية ان يرتكب ايا منا خطأ المقترن باعتراف سطحي باننا ( خطاءون ) ، وهذا احد اهم مصادر الخلافات المزمنة بين العرب والتي تنتظر فرصة للظهور بقوة تفاجئ الكثيرين لحدتها وتطرفها . ومن بين اهم مظاهر الخلل في الحكم والتفكير ظاهرة اتهام البعث بالديكتاتورية اعتمادا على مظاهر قد تكون مخادعة او صحيحة ولكنها غير كافية للحكم ودون المرور قبل اصدار ذلك الحكم بنظرة تحليلية منهجية شاملة لظاهرة انفراد البعث بالحكم والبحث الجاد عن اسبابها الحقيقية والعميقة ، وهذا الخطأ ادى الى مشاكل كثيرة ، وما قلناه عن البعث ينطبق على الحكم على غيره طبعا .
ولكي نشخص ظاهرة اتهام البعث بالديكتاتورية وهي تهمة نصف حقيقية ونصف خاطئة لابد من تناول الجوانب المختلفة لتلك الظاهرة بطرح السؤالين التاليين : هل يومن البعث اصلا بالحرية ؟ واذا كان الجواب نعم فاننا نجد السؤال الثاني بأزاءنا وهو : اذن لم انفرد بالحكم وهو السبب في اتهامه بالديكتاتورية ؟ الجواب هو نعم البعث يؤمن بان الحرية احد اهدافه الكبرى الثلاثة عقائديا وهي الوحدة العربية والحرية والاشتراكية ، ولكن عمليا رأينا البعث ينفرد بالحكم في العراق فهل كان ذلك بسبب سطحية ايمانه بالحرية ؟ ام ان ذلك الاختلاف بين النظرية البعثية وتطبيقها راجع لعوامل اخرى لا يتحمل البعث وحده مسؤوليتها ؟ هذا هو التساؤل الحاسم في كل الموضوع .
اولا وقبل كل شيء نلفت النظر الى ان مفهوم البعث للحرية تكويني - بنيوي وليس اضافة طارئة او مؤقتة ، فالبعث حزب نشأ في بيئة غير صحية في الوطن العربي لان الاستبداد والفساد ساداها اضافة للتبعية للخارج وغالبا للاستعمار الذي احتل اجزاء كثيرة من الوطن العربي مشرقا ومغربا ، وبدأت الصهيونية بتنفيذ خطتها لانشاء اسرائيل الكبرى من النيل الى الفرات ، لذلك كانت عقيدة البعث ردا مدروسا على تلك الحالة غير الصحية ومبادرة جادة لتصحيحها جذريا . وهذا ما جعلنا نؤكد مسبقا بان ايمان البعث بالحرية تكويني بنيوي ، اي انه جزء من البنيان العقائدي الاساسي للبعث وليس جزء مضافا اليه بطريقة اصطناعية . وفيما يلي الاوجه التكوينية والبنوية لمفهوم الحرية في البعث :
1- الجذر القومي للحرية : بعكس ما تروجه اوساط غير نزيهة من ان البعث حزب يؤمن بقومية عنصرية فان مفهوم القومية العربية في البعث يقوم على اساس اختياري حر ، فالعربي ليس هو المنتمي لعرق عربي صاف ، فذلك مفهوم غير واقعي وغير موجود اصلا ، بل هو من ولد في الوطن العربي وتكلم لغته واخلص له واعتبره وطنه الوحيد . لذلك فان امكانية الانسان اختيار هويته القومية تشكل احد اهم جوانب المفهوم البعثي للقومية وللحرية في ان واحد ، وبفضل ذلك وجدنا ان الكثير من البعثيين بما في ذلك اعضاء اعلى قياداته كالقيادة القومية او القيادات القطرية من اصول غير عربية ، ففيهم الكردي والامازيغي والتركماني وفيهم الاسود والابيض والاسمر ، وكل هؤلاء الذين اكتسبوا عروبتهم او ختاورها بعد ان ولدوا في قطر عربي ونشأوا في بيئة عربية .
ما الذي تنظوي عليه هذه الحقيقة ؟ ان ابرز ما تؤكده هو ان الحرية الفردية حتى في اختيار هوية الانسان القومية هي ارقى اشكال الحرية التي يمارسها الانسان مادامت الهوية اهم مميزات الانسان ، فالبعث بهذا المعنى حزب جعل من الحرية قاعدة السلوك العام والخاص واعتبرها المحرك الاساس للابداع والتقدم .
2– الجذر الاشتراكي للحرية : الاشتراكية في البعث هي التحرير الاعظم للانسان من الحاجة المادية والتلبية الافضل للحاجات الفكرية لانها تبعد الانسان عن فخاخ الفساد والجريمة والاضطرار للتملق والخوف ، فلقد اثبتت تجارب التاريخ في كافة المجتمعات الانسانية ان الفقر والحرمان والتمييز الطبقي هي منابع الكذب والنفاق والانحراف والانتهازية وكافة الموبقات .
وبناء عليه فان تحرير الانسان من الحاجة يمنحه اكبر الفرص لممارسة حريته بلا ضغوط مادية عليه تجبره على الحط من قيمته الانسانية عبر التملق وممارسة كافة اشكال اللصوصية ، فالاشتراكية ، بما توفره للانسان وكحق طبيعي من طب مجاني وتعليم مجاني وسكن رخيص وعمل مضمون وحق في اختيار من يحكمه واحترام ادميته ، تجعل الانسان حرا بصورة حقيقة لتمتعه بما يجتاجه فيتصرف وفقا لقناعاته وما تمليه عليه ادميته ومصالح امته ، وبفضل تلك الاستقلالية تتعزز لديه الحصانة ضد الكذب والتملق والنفاق وتقديم تنازلات .
3- الجذر العمومي للحرية : الحرية في البعث تقوم على قاعدة ذهبية وهي ان حرية الامة هي الاطار الضامن للحريات الفردية ولا حرية فردية في امة تابعة وفاقدة لاستقلالها وحريتها العامة ، لهذا فان الحرية الفردية مقترنة عضويا بالتحرر الوطني وعندما تفصل عنه- وهو اهم اساليب الغرب الاستعماري - تصبح وسيلة لقبول الاستعمار الذي يهمه اولا الحصول على ثروات البلد المستعمر وهو لذلك مستعد لمنح حريات فردية واسعة بشرط عدم توجيهها ضد الغزو الاستعماري ، وهذا النوع من الحرية في ظل الهيمنة الاستعمارية يفضي في احيان كثيرة الى التحلل اجتماعيا ، وربما يفضي الى التحلل الاخلاقي.
4 – الجذر النسبي للحرية : نسبية الحرية في البعث مصدرها حتمية التوفيق بين حريات الافراد ومصير الامة او الدولة ، خصوصا حتمية تجنب التهديدات الداخلية والخارجية ، فلا حرية كاملة مع وجود التهديد العام من الداخل او الخارج ، وهذه القاعدة تشمل كافة الامم وفي كافة العصور والامصار وليست مقتصرة علينا ، فعندما تنشب الحرب او تحدث ازمة كبرى تهدد وجود الامة فان قوانين الطوارئ تفرض وتعلق الحريات العامة والفردية . واذا اردنا معرفة قيمة هذه النسبية علينا تذكر ان امريكا اقوى واغنى دولة والاكثر استقرارا عندما قالت بان هناك تهديدات ارهابية لها وواجهت هجمات 11-9-2001 اتجهت للقمع خارجيا وداخليا بطريقة مناقضة لدستورها وتقاليدها في ممارسة الحريات واخذت تقلص الحريات الفردية وتتجه نحة دولة بوليسية ، فاذا كانت امريكا واوربا الغربية اتجهتا لتقليص الحريات بسبب ما عد تهديدات ارهابية لا تهدم الدولة ولا المجتمع بل تضر بهما فهل يمكن لاقطار عربية تتعرض للغزو وتهديم المجتمع والدولة وتغيير الهوية القومية وتهجير الملايين وقتل الملايين ان تتمسك بالديمقراطية والحرية ولا تتراجع عن معاييرهما ؟
ولهذا فان الحرية ليست حقا مطلقا ومنعزلا عن الشروط العامة بل هي بنت تلك البيئة التي تتاثر بحالة الامة وما يحيط بها .ويترتب على هذه القاعدة ضرورة اساسية فكلما زادت التهديدات تقلصت الحريات العامة والفردية.وبناء عليه فان حرية الامة وبقاء الشعب تأتيان في المقام الاول وبعدها الحريات الفردية .
5- الجذر المفسد للحرية الليبرالية : عندما تعتبر الرأسمالية الحرية الفردية اساس المجتمع وتضع الحرية العامة للمجتمع بعدها فانها تضع قاعدة خطرة للافساد الانساني بجعل حرية الفرد متناقضة مع حرية الشعب عمليا ونظريا . فالفرد بطبيعته ميال الى ممارسة انانيته – النفس امارة بالسوء- وكل تجارب البشرية تثبت بان تغليب الحرية الفردية يجر جرا الى تجريد المجتمع من اهم عناصر انسانيته وهو عنصر التلاحم والاثرة واخضاع المصلحة الفردية لمصلحة الجماعة ، ويصبح المجتمع عبارة عن وحدات فردية مجمعة اصطناعيا ويربطها دافع المصلحة وليس مجتمعا عضوي الرابطة ومتين الهوية القومية فتسود الغربة بين ابناء الشعب كما هو حال امريكا واوربا الغربية ، وعندما تتعرض الامة الى التهديدات فان استعداد الفرد للتضحية يكون في ادنى درجاته واضعفها ويعوض ذلك بالتفوق التكنولوجي والعسكري .
ونظرة لامريكا مثلا تجعلنا نفهم ان الحرية الليبرالية تحول الانسان الى فرد يستطيع شتم رئيس الدولة واي شخصية عامة امام شاشات التلفزيون لكنه عاجز كليا عن نزع احتكار المال من قبل شركات وعوائل تملك اغلب الثروات وبما ان المال هو محرك وضابط المجتمع فان من يملك المال يسيطر على الناس عامة . كما ان التربية الليبرالية تجعل الامريكي شرسا جدا وقاسيا لكنه عندما يتعرض للموت ينهار بسرعة بسبب انانيته المفرطة وتقديمه الانا على النحن . وهذه حقيقة عرفها الفيتناميون وعرفناها نحن العراقيون عندما قاتلنا الجيوش الامريكية وراينا ان الجندي الامريكي بقدر ما هو قاس ووحشي فانه هش الشخصية ويهزم بسرعة بسبب انانيته المفرطة والتي هي نتاج الحرية الليبرالية .
ان الحرية الليبرالية في امريكا ومن على شاكلتها ليست سوى رشوة ذكية تقدم مقابل العجز الفعلي للفرد المنعزل في فرديته وانانيته المفرطة عن تغيير الحالة الاجتماعية العامة المتسمة بسيطرة عوائل ونخب على المال العام وتحريك المجتمع به باعلامه ومؤسساته . ونحن العراقيون خير من راى تجسيد هذه الخلل البنيوي في المجتمع الامريكي عندما غزانا رئيس هو بوش الصغير اعترفت الجهات الامريكية انه اغبى رئيس امريكي فكيف يسمح شعب حر حقا ويتمتع بحصانة فعلية ضد تأثيرات المال والاعلام ان يفوز رئيس غبي ويحكمه – ظاهريا طبعا - ويشن الحروب ويخلق الازمات الكبرى ؟ وهل لا يوجد من بين اكثر من 300 ملايين امريكي من هو اكفأ واذكى من عائلة بوش التي ترأسها بوش الاب وخلفه ابنه بوش الصغير والان يريد جيب بوش ترأسها ، كما نرى عائلة كلنتون تقدم هيلاري بعد بيل للرئاسة ؟ هل امريكا التي حققت اعظم الانجازات في التاريخ البشري تكنولوجيا وعلميا عاجزة عن تقديم رؤوساء اذكياء وحكماء ومؤهلين ؟
في ضوء ما تقدم فان الليبرالية تعطي الفرد حق النقد حد الوقاحة وهذا تكتيك لافراغ شحنة الرفض والغضب لديه او اضعافها ضد مظالم الرأسمالية واحتكار المال من قبل اسر ونخب ، فتغيب العدالة الاجتماعية وتزول الاخلاق وتحل محلها النفعية الفردية التي لايرى الفرد عموما من خلالها الا تمتعه بحريته وببعض الامتيازات الفردية ، فتصبح اللامبالاة تجاه من يترأس او يملك مصدر القوة والسلطان وهو المال ظاهرة عامة .
اذا كانت هذه هي نظرة البعث للحرية فكيف قام نظامه على الانفراد بالحكم ؟
يتبــــــــــــــع ..(تم حذف الإيميل لأن عرضه مخالف لشروط المنتدى)
٢٢ / حـزيران / ٢٠١٥