"كان حلما يراودني منذ عشرات السنين، وخفت أن لا اتمكن من تحقيقه، لكن صدق النوايا والفرص الكبيرة التي وفرتها لنا الحياة في الولايات المتحدة، اضافة الى تحوّل العالم الى قرية صغيرة بفعل التكنولوجيا، منحتنى الأمل والفرصة لتحقيقه على أرض الواقع".
بهذه الكلمات يصف الفنان الأستاذ "رعد بركات" الأحتفالية التي اقيمت في ديترويت برعاية (منتدى الرافدين للثقافة والفنون في الولايات المتحدة) في يوم ٢٤ نيسان ٢٠١٥ والتي خصصت لأستذكار الفنان والملحن والموسيقار العراقي الرائد "صالح الكويتي" ويُكمل: سمعتُ بإسم الراحل منذ ان كنتُ شاباً، وبعد دراستي الموسيقى وعملي في الأذاعة والتلفزيون عرفت المزيد عنه من خلال اساتذتي والرواد الذين عاصرتهم ومنهم، الأستاذ عباس جميل، سلمان شكر، آرام باباخيان وجميل سليم، إذ كانوا يتحدثون عنه بشغف ولهفة وأعجاب، فازداد تعلقي به. ودارت بنا الأيام ، واخذتنا الغربة بعيداً، لكن وفائي لذكرى الراحل بقت معي تطاردني. إن الاخلاص للقامات الموسيقية العراقية اصبح واجباً علينا نحن الجيل الجديد، كونهم هم من وضعوا الأساس المتين للموسيقى والأغنية العراقية الحديثة، حيث يَعتبر كلّ البحّاثة (المنصفين) بأنها ولدت على يد الفنان الراحل "صالح الكويتي". وفي السؤال للفنان "رعد بركات" عن تحويل الفكرة الى عمل قال: إن الذي شجعني، كان نجاح الأمسية التكريمية التي اقمناها نحن في (منتدى الرافدين) للأستاذ "ناظم نعيم" منذ فترة وتقبل جمهور الجالية الكرام المتذوقين للفن العراقي الأصيل، دفعني حقاً للتفكير بحفل تكريمي للفنان الراحل (صالح الكويتي). بدأت اولاً بجمع المعلومات عنه، وساعدني مشكوراً أخي العزيز الفنان وعازف الكمان (طاهر بركات) ، إذ كانت قد توفرت له الفرصة ومن خلال الجالية العراقية (اليهودية) في العاصمة البريطانية لندن ، ان يلتقي بأبن الراحل (السيد سليمان صالح الكويتي) ويأخذ منه العديد من المعلومات عن والده، اضافة لبعض الشخصيات العراقية التي عاصرت الراحل في العراق. فبدأتُ العمل بالتنسيق مع الأخوة في (منتدى الرافدين للثقافة والفنون) والذين رحبوا بالمشروع، ومن ثم جرى الأتصال بالفنانين الموجودين في الجالية العراقية بديترويت، بعدها وجهنا الدعوة لأبن الراحل (السيد سليمان الكويتي) الذي شـرفنا بحضور هذا الحفل الفني . بعدها سألت الفنان "رعد بركات" عن تقييمه للحفل فقال: لا اظن ان شخصاً على وجه الأرض كان اكثرُ سعادة مني في تلك الليلة، انا والجالية والفنانين نغني ونتحدث بسيرة واحداً من اعظم وأروع رواد الفن والموسيقى العراقية ، بالحانه العظيمة وأعماله الجميلة، وأثبتنا لكل الساسة بأننا أكبر من الطائفية والأحقاد . لقد كان الحفل جيداً بصورة عامة، فيما تميز الجمهور الذي حضربالأذن الموسيقية والذائقة الراقية. لقد حُولت منصة الحفل الى لوحة فنية كبيرة، وازدانت بمجموعة من الفنانين والعازفين، من أمريكا ومن خارجها، ثم كان لوجود ضيفنا إبن الفنان بحد ذاته، جميعها عوامل ايجابية أثرت المناسبة والحفل. لقد أقمنا نحن مجموعة من الفنانين مالم تستطع ان تقيمه مؤسسات ثقافية تابعة للحكومة العراقية والذي يعتبر من صلب مهامها، إن كانت وزارة الثقافة او الملحقية الثقافية في واشنطن. وبالسؤال حول القيمة الأبداعية للأرث الذي خلفه الراحل صالح الكويتي قال الفنان رعد بركات: لقد ترك لنا المبدع "الكويتي" كنوزاً من الأعمال لن يكن لها بديلاً او مثيلاً. ولعلي هنا أشير الى موضوعة شائكة حول الفن والغناء في العراق، فمعلوم للكثير من الباحثين ان الغناء العاطفي والغزلي كان يعتبر من "المحرمات" في مجتمعنا العراقي المحافظ وبدعوى انه مخالف للأسلام، خاصة وان البلد كان قد خرج للتو من العباءة العثمانية العنصرية المتخلفة، وأهتم اكثر باللون الديني من "الموشحات والشعائر والمآتم والمولد النبوي". لكن مع اطلالة العشرينيات، بدأت النهضة الموسيقية على يد الفنانين (اليهود) اولاً، حيث شكلوا بعض الفرق الموسيقية (خاصة الجالغي ـ وكانوا يسمون العضو المنفرد ـ جلغجي) كون ديانتهم لا تحرم الغناء، فيما وصل عددهم في نهاية عقد العشرينات الى حوالي (٢٠٠) شخصية موسيقية يهودية. برز الراحل (صالح الكويتي) الذي تميز بامكانياته الفذة ليس على مستوى العراق بل في المنطقة كلها، حيث أخذ باللحن الريفي وطاوعه للغناء، وابتكر الغناء الحديث، والأوبرالي منذ ذلك الزمان. نعم، لقد انطلق الفن في العشرينيات من القرن الماضي متألقا وبألوان متعددة وبسلالم منوعة. لقد ترك لنا الراحل اكثر من (٧٠٠) لحن ، اما في حقل أشهر الأغاني العراقية فأن الحانه كسبت (١٠٠) اغنية من اللواتي تحتل اعلى شهرة في سلّم الأغاني العراقية المسموعة دائما بلا منازع، تلك التي يطربُ لها الكبير والصغير، تطربُ لها الفتاة والمرأة ، ويطربُ لها العراقيون بكل اطيافهم وقومياتهم وخلفياتهم. هذا هو العملاق صالح الكويتي (العراقي). ثم يكمل الأستاذ "رعد بركات" بالقول: مع اطلالة الثلاثينات والأربعينات دخلت جمهرة (المسيحيين) الى حقل الموسيقى فكان منهم : منير بشير، جميل بشير، آرام باباخيان، نعيم سلمو والد الملحن ناظم نعيم ، ومن ثم ناظم نعيم، جورج جابرو وفؤاد ميشو وآخرون كثر تزخر بهم تلك الحقبة العظيمة في تأريخ الثقافة والموسيقى العراقية، ولأن الأنطلاقة كانت كبيرة فقد انضم اليهم العديد من الموسيقيين العرب (المسيحيين خاصة) من أمثال جميل صدقي ـ مصري، عبد الحليم السيد ـ مصري ومن دورة محمد عبد الوهاب، سعد ألبير وآخرون . اما الضيف السيد "سليمان صالح الكويتي" فيقول عن الحفل: لقد كنتُ مبهوراً بمحبة الناس، وكنتُ أتمنى طوال الوقت لو كان "أبي صالح" حاضراً ليرى ما رأتهُ عيني. اناس من كل الأشكال والأديان والطوائف، رجال ونساء، يسلمّون عليّ ويطلبون التصوير معي، بعضهم قبلني والآخر صافحني بحرارة، لأ اعرفهم، لكن تشدنا تلك اللحمة العراقية التي تغلبت على كل من أراد تفريق ابناء الوطن الواحد، نعم استقبلوني كعراقي، وكيهودي وكأبن للموسيقار صالح الكويتي وهذا شرف كبير لي سأحمله اينما ذهبت وطالما حييتُ. كان الحفل جميلاً، ولأول مرة احضر (تكريماً) لوالدي بهذا الحجم وهذا الجمهور المتعطش، نعم المتعطش للفن والغناء والتراث العراقي الأصيل ، لقد بكيتُ وأختنقت الكلمات مراراً في فمي، محاولاً ان اجد تفسيراً منطقياً لما جرى على والدي وعائلتي وعائلة المرحوم عمي داود ايضا ، ولليهود العراقيين بصورة عامة، لكن ما شهدتهُ عيني في تلك الليلة، وحتى في الأيام القصيرة التي قضيتها بديترويت بضيافة الأخ الغالي (رعد بركات) برهنت لي بأننا عراقيون ومن طينة عجنت بمياه دجلة والفرات وفاءً.
وتعود الأيام وشريط الذكريات لتروي آخر خطوات الراحل على تراب اجداده وعلى لسان ابنه سليمان فيقول: حينما بدأت موجة اسقاط الجنسية عن اليهود العراقيين وتسفيرهم للخارج حوالي عام ١٩٥١، سمعتُ من والدتي ان رئيس الوزراء آنذاك (نوري السعيد) قد حصل على استثناء لأبقاءه (٦) أشهر اضافية حتى يقوم بتكثيف عمله مع جيل الموسيقيين الناشئ آنذاك لتعليمهم اهم المبادئ في التراث العراقي. وعندما أزفت ساعة المغادرة بعد الألحاح الكبير من والدتي بالرحيل، ترك ابي العراق وبيده (الكمنجة ـ الكمان) فقط في حين سَحبت الجهات الرسمية منه النوتات التي كتبها بدعوى انها من التراث، لكنه كان يقول مراراً وتكراراً : "سأسافر الآن وأرجع للعراق، لن اشتري بيتاً بل سأقضيها بخيمة" نعم كانت هذه امنيته، ان يعود الى وطنه، الى البلاد التي نشأ فيها وأحبها وأعطاها أجمل ما يملك. كان دائمل يقول : (نعم إني غادرت العراق، لكن العراق لم يغادرني)! ولعلي هنا أذكر ، والكلام مازال للأستاذ "سليمان صالح الكويتي" بأنه وعشية اخراج أبي من العراق، طرحت دولة الكويت عليه آنذاك منحهُ الجنسية الكويتية، لكنه رفض وقال: سأحتفظ بجنسيتي العراقية لوحدها! لقد غادر والدي العراق عام ١٩٥١، ورحل عنّا عام ١٩٨٦، وهذه الثلاثين سنة ونيف، كانت صعبة جداً عليه وعلى أمي وعلينا كلنا، فقد كان مهووساً بشئ اسمه العراق، ولا اظنه ارتاح ليوماً واحداً، الا حينما توقف ذلك القلب المحب والحنون عن الخفقان، ربما ارتاح حينذاك ، ومن يدري! ينهي السيد "سليمان" إبن الراحل كلامه بالقول: بالحقيقة حينما تكون ابناً لشخصية معروفة فأنها تشكل حملاً ومسؤولية كبيرة. وما اكثرها من مناسبات، إن كان وسط ابناء الطائفة اليهودية العراقية في اسرائيل ، او الجالية العراقية في لندن وهم يهمسون : (هذا ابن صالح الكويتي). لقد دفعني اهتمام الناس هذا للبحث اكثر في المنجز الابداعي الذي ساهم به والدي وعمي ايضاً ، ويعتريني فخر كبير بأني أصدرتُ كتابا (صالح الكويتي : نغم الزمن الجميل) منذ فترة، ضَمنتهُ اهم مراحل سيرته الذاتية ومشواره مع اللحن والفن والتراث العراقي وأبرز أغانيه، وقد كان له صدى طيب لدى محبي التراث العراقي الأصيل. لقد حضرتُ اكثر من مناسبة في اسرائيل أو لندن لغرض تكريم والدي (والكلام مازال للضيف سليمان الكويتي) ، لكن ما جرى في ديترويت كان يفوق تلك الأماسي حجماً ونوعاً وحميميةً، وأنا ممتن للكل ، ولكل من قدّر ويقدّر الفن العراقي الأصيل، ولعلي هنا اشارككم صورة طالما ارتسمت امامي ، ففي كل مكان أذهب، أجد العراق وأبي متلاصقين ويسيرون سـويةً، وأشعرُ بأني مثل فسيلة تتفيأ بهما وبذكراهما. وبالحقيقة فإنه دائم الحضور، رغم غياب جسده منذ اكثر من ثلاثين عاما، لكن مَن ذا الذي يتجرأ على محو الأصالة والصدق والدفئ من ذاكرة العراقيين، أقول انه مجنون من يحاول ذلك، فالكثير من الأشياء قابلة للمحو والنسيان والأبدال، إلا الهوية الثقافية الوطنية للأنسان، باقية ما بقى هو في الوجود.
**ازدان مسرح الحفل بأجواء بغدادية جميلة ، إذ اشرف الفنان رعد بركات على تصميمه مستخدما صور الفنانين الرواد وأبرز رموز الثقافة العراقية على جدران المسرح، فيما كان المشهد يوحي بجلسة في احدى المقاهي مع جوقة من الفنانين والموسيقيين: ١) عباس العطار ٢) سوسن النجار في الغناء ٣) رعد بركات ٤) طاهر بركات على الكمان ٥) صباح سلمان ٦) أكرم السبع ٧) قصي عبد الجبار على الكمان ٨) نشوان فاضل على العود ٩) فادي عزيز على الناي ١٠) حيدر السماوي على القانون ١١) ثائر العزازي مطربا١٢) محمد لفتة على الرق ١٣) عباس طبانة على الطبلة. اما الأشراف الفني فكان بإدارة رعد بركات، فيما قام بالأخراج المسرحي أمير مشكور، و طلعت المندوي في اعداد النص المسرحي والتقديم، فيما قام السيد حسن حامد بالأشراف على الفيديو والأنارة والصوت. *** كانت واحدة من الصور الجميلة حينما اعتلى المسرح الضيف "سليمان الكويتي" وألقى كلمة مؤثرة، عبّر فيها عن شكره وتقديره للجالية العراقية الكريمة، وللمنتدى، وللأستاذ رعد بركات، ولكل الفنانين ، وللحضور الذي منح ألامسية ألقها المتميز، ثم قدم الفنان التشكيلي (أنيس ربيع) هدية رمزية بإسم المنتدى ، وهي عبارة عن كرة يحيط بها (مفتاح صول) مُشكلاً من الحروف المكونة لاسم "صالح" فيما لوّنت بالبرونز والأرجواني الدافئ، ولكون (مفتاح صول) يبدأ ب (نقطة)، فأن تلك الكرة صارت هي البداية، والبداية كانت مع صالح الكويتي. وحينما استلم الضيف سليمان صالح الكويتي الهدية رد بالقول: شكرا لهذا التكريم، الهدية رائعة ومعبرة وسأقدمها الى امي لتضعها في غرفتها في دار كبار السن الذي تقطنه الآن. ** رابط الحفل الفني المنشور في شبكة اليوتوب: [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط][ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
كمال يلدو آب ٢٠١٥
ليلة الأحتفال بذكرى صالح الكويتي" في ديترويت الموسيقار "