[size=32]حوزة النجف الأصل في المرجعية والدراسة الدينية والوصول إلى مرتبة الاجتهاد[/size]
أعادت التطورات الأخيرة في العراق تسليط الضوء على الخلاف التاريخي بين تيارين شيعيين، الأول مرتبط بحوزة النجف، ويمثله آية الله علي السيستاني، والثاني يرتبط عضويا بالنظام الإيراني عبر مرجعية الولي الفقيه المتمثلة بالمرشد علي خامنئي.
العرب/لندن - حسب الاعتقاد الشيعي الإمامي، توقّف عصر الأئمة، كمراجع للطائفة، بعد الغيبة الكبرى (260هـ)، ومفادها أن الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري غاب عن الأنظار بسبب المخاطر التي كانت تحيط بأجداده وآبائه ثم هو شخصيا، فعندما توفي والده كان عمره خمسة أعوام، فخشية عليه غُيّب عن الأنظار، فالخطر لم يكن من الخليفة العباسي فحسب، وإنما من عمه جعفر بن علي الهادي أيضا، الذي أراد الإمامة لنفسه، بعد وفاة أخيه العسكري.
وقسّمت الغيبة إلى الغيبة الصغرى والغيبة الكبرى. خلال الصغرى (استمرت 69عاما) كان الإمام يتصل بشيعته عبر السفراء أو النواب، مثلما يسمون، وهم أربعة نواب، وبوفاة الرابع أُعلن ما سمي بالغيبة الكبرى (329هـ)، وهنا توقف عصر الأئمة وعصر النواب أيضا، ليبدأ الشيعة يلتفّون حول مراجعهم الدينية.
قيل إن مؤسس المرجعية الدينية، المستمرة إلى يومنا هذا بالنجف، الشيخ نعمان بن محمد العكبري، المعروف بالشيخ المفيد. وكان مركزه في بغداد، ومن بعده ظهرت سلسلة من المراجع. لكن ليس بالضرورة أن يكون مرجعا واحدا في زمان واحد، إنما ظهر ما يُعرف بتعدد المراجع الدينية، لأن التقليد ليس مشروطا بعالم واحد، بل يعتمد على أعلمية المرجع وقناعة المُقلد به، مع ذلك لا يخلو التاريخ من مراجع كبار كانوا أكثر حظا من غيرهم في الانتشار حيث يوجد الشيعة الإمامية، ويمكن أن يشار إلى كلّ منهم بالمرجع الأعلى.
يمكن تحديد زمن ظهور مرجعية النجف بهجرة شيخ الطائفة الطوسي إليها، بسبب النزاع الطائفي الذي حصل في منتصف القرن الخامس الهجري، بعد سيطرة السلاجقة على بغداد، الذين حلوا محل البويهيين، الشيعة الزيدية. من هنا ظهرت مرجعيات في مدن عديدة، لكن تبقى النجف هي الأصل في المرجعية والدراسة الدينية والوصول إلى مرتبة الاجتهاد.
أما مرجعية قُم الإيرانية، فتاريخها الحوزوي يعود إلى بداية العشرينات من القرن الماضي. وتأسست على يد المرجع عبدالكريم الحائري. لكن ليس معنى هذا أن لا وجود لمرجع دين وحوزات قبل هذا التاريخ في إيران، فوجود الشيعة هناك يعود إلى قبل الفترة الصفوية بكثير، إلا أن الصفويين نشروا التشيع وجعلوه المذهب الرسمي للدولة الصفوية مقابل المذهب الحنفي الذي تعتقد فيه الدولة العثمانية.
لم تظهر اختلافات بين مرجعية إيرانية ونجفية إلا لأسباب سياسية، فالنجف لم تدخل في موضوع الصفوية، بل إن الصفويين أتوا بعلماء دين مِن جبل عامل في لبنان وليس من النجف، لتولي مهام المذهب هناك. أما الخلاف الكبير فقد ظهر بعد الثورة الإيرانية، حين تحوّلت إيران إلى مرجعية في السلطة، بينما في زمن الشاه كان حالها حال النجف مع الدولة، مع اختلاف التأثير والقوة بطبيعة الحال. إياد جمال الدين: ولاية الفقيه مبدأ مستورد من الفقه السني ولاية الفقيه، مصطلح سياسي ظهر حديثا في الفقه الشيعي. حيث يعتبرها فقهاء ولاية وحاكمية الفقيه الجامع للشرائط في عصر غيبة الإمام الحجة، حيث ينوب الولي الفقيه عن الإمام الغائب في قيادة الأمة وإقامة حكم اللّه على الأرض.
ويعرّف رجل الدين الشيعي والسياسي العراقي إياد جمال الدين مبدأ ولاية الفقيه، بأنه مبدأ مستورد من الفقه السني، وليس له جذر شيعي، وأول من نصّ على أن للفقهاء ولاية على الناس وأنهم خلفاء الرسول هو الفقيه الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية، وهو فقيه سني، وبعد نحو 300 إلى 400 عام، استورد أحد فقهاء الشيعة واسمه علي ابن عبدالعال الكركي هذه الفكرة.
ويشير جمال الدين إلى أن الكركي درس في الأزهر الشريف بمصر، ومن هناك اقتبس فكرة الماوردي وأدخلها إلى الفقه الشيعي وحاول أن يستدل عليها شيعيا، ولكن موروث أحاديث أئمة أهل البيت لا يدعم هذه النظرية الفقهية السنية، ولكن الكركي زجّ بها، وقال “أنا نائب الإمام المعصوم”، بمعنى أنّ خلفاء النبي هم الأئمة الإثني عشر، وأنا (ولي الفقيه) خليفة الأئمة، وبالتالي فأنا خليفة الرسول، وبما أني خليفة الرسول فإني أعين الشاه الصفوي ملكا على إيران، وهكذا قامت الدولة الصفوية في إيران على أساس نظرية ولاية الفقيه. بعد أن أعلن آية الله الخميني فكرة ولاية الفقيه كحومة على إيران، أو حكومة الولي ونائب الإمام، لم تستجب النجف لذلك، بقيت في ظل المرجع آنذاك آية الله أبي القاسم الخوئي، حتى وفاته 1992، محافظة على عزل السياسة المباشرة عن الدين، واعتبار الولاية ولاية حُسبية وليست سياسية عامة، مثلما أعلنها الخميني.
وبعد آية الله الخوئي جاء آية الله عبدالأعلى السبزواري ثم جاء المرجع الحالي آية الله علي السيستاني، بعد وفاة آخرين كانوا أكثر حظا منه في تولي المرجعية. واستمر بخط مرجعية النجف التقليدية، وأهم ما فيها لا دخل لرجال الدين في إدارة الدولة، بمعنى الموافقة ضمنيا على الدولة المدنية، مع التأكيد على حفظ مظاهر الإسلام، كون أغلب الشعب العراقي من المسلمين.
إلا أنه بعد 2003، وحسب الفتاوى والرسائل الصادرة من مكتب المرجعية في النجف، وجدت نفسها مضطرة إلى التدخل في الشأن السياسي، كاحتجاج أو نصيحة أو تأييد، مع التأكيد على البقاء بعيدا عن إدارة الدولة، وبعيدا عما يُعرف بولاية الفقيه المطلقة. وهنا عندما يُقال مطلقة يعني أن تكون حكومة، وغير المطلقة أي الحسبية المتعلقة بقضايا الشرع، والولاية على أموال القاصرين من الأيتام وغيرهم، وهذا لا يحدث بأمر أو توجيه من المرجعية، إنما حسب لجوء المقلدين إليها.
وبعد تدخل ولاية الفقيه الإيرانية بقوة في الشأن العراقي، ظهر الخلاف جليا بين النجف وطهران، ولا نستطيع القول و”قُم”، لأن مدينة قم لم تبق ممثلة للمرجعية، مثلما كان الحال في زمن الشاه، بل غدت المرجعية الرسمية سلطة قائمة في إيران ومركزها طهران العاصمة، مع وجود مراجع دين لا يقرّون بمرجعية آية الله علي خامنئي، وفي هذه الحالة يفكرون تفكير مرجعية النجف نفسه، أي الابتعاد عن ممارسة السياسة المباشرة، وكان يمثل هذا الجانب في إيران آية الله محمد كاظم شريعتمداري، الذي ظل حبيس داره بعد مصادرة مدرسته بقم.
وبعد وفاته منع تشييعه والصلاة عليه، وذلك لأنه كان معارضا لولاية الفقيه، بل ولتسمية إيران بالجمهورية الإسلامية. وقد أُجبر على الظهور في شاشة التلفزيون معلنا توبته، بينما يعود الفضل إليه وإلى مراجع أخرى في نجاح الثورة، التي اختطفها رجال الدين بزعامة الخميني. إن الاختلاف داخل العراق بين ولاية الفقيه الإيرانية ومرجعية النجف لم يعد مخفيا، فواضح أن الولي الفقيه الإيراني يؤيد الأحزاب الدينية الشيعية، بل يعتبر نفسه وليّهم جميعا، ومازال ينظر إلى نوري المالكي على أنه يده في العراق، إضافة إلى منظمة “بدر” وما يمثله أبو مهدي المهندس من قوة ميليشاوية، والتي اجتمعت بما عُرف بالحشد الشعبي.
وهنا يمكن القول إن الولي الفقيه الإيراني اختطف فتوى المرجع علي السيستاني، في التطوع أو ما عُرف بالجهاد الكفائي لمواجهة تنظيم داعش بعد اجتياح الموصل وإقامة دولته هناك، لكن هذا الجهاد كان مشروطا بالتطوع في القوات المسلحة العراقية، إلا أن مرجعية النجف اضطرت إلى مسايرة ما حصل، مع تحفظها على تكوين الحشد الشعبي خارج نطاق الجيش والقوى الأمنية، وهذا ما تم إيضاحه في عدة خُطب لوكلاء المرجعية.
كذلك ظهر الاختلاف جليا في تأييد مرجعية النجف القوي للتظاهرات الشعبية، التي تطالب بمحاكمة الفاسدين الكبار وإصلاح القضاء قبل كل شيء، وكان أول المطلوبين نوري المالكي.
ويومها غادر المالكي إلى طهران، بعد أن أيدت المرجعية الدينية التظاهرات وأخذت تدفع حيدر العبادي إلى مباشرة الإصلاح وتلبية مطالب المتظاهرين، حتى إنها في إحدى الخطب طالبته بالجرأة بعد أن شعرت بالتباطؤ في سياسته. يومها أسرع رجالات إيران العراقيون، كهادي العامري وأبي مهدي المهندس إلى زيارة رئيس السلطة القضائية مدحت المحمود في يوم وقوف الحشود مطالبة بإقالته، وكانت الزيارة تضامنا معه، وهذا هو الموقف الإيراني، فأمثال هؤلاء لا يتحركون بلا توجيهات مكتب الولي الفقيه.
على أي حال، إن الإسلام السياسي الشيعي، لم يعد منسقا ولا مطمئنا لمرجعية النجف، لذا ترى حزب الدعوة الإسلامية يدفع إلى تولي مرجعية النجف، بعد السيستاني وفي وجوده، من قبل مراجع سياسية في الأصل، تتبع الولي الفقيه خامنئي، وأبرزهما الشاهرودي والحائري، فقد كانا يوما ما ناشطين في حزب الدعوة، وبهذا تُشكل مرجعية النجف، إضافة إلى الرأي العام المُعبر عنه من خلال التظاهرات، عائقا أمام الإسلام السياسي الشيعي العراقي ومرجعيته بطهران الممثلة بعلي خامنئي، ويده الطولى داخل العراق ولبنان وسوريا الجنرال قاسم سليماني.